لست من هواة الكتابة في الشأن السياسي، ناهيك عن أن أكون محترفا فيه، بل إني لست حتى من هواة التعاطي معه، وأذكر بالمناسبة أني أثناء دراستي الجامعية في جامعة الملك سعود سجلت مادة اختيارية من قسم العلوم السياسية، كان الطلبة يسجلون فيها ليرفعوا معدلاتهم التراكمية، لأنها مادة سهلة، ومع ذلك لم أحصل منها إلا على تقدير منخفض لم يساعد على رفع معدلي!

من هنا، فإن هذا المقال ليس سياسيا، لا في غرضه ولا في موضوعه، وإنما هو حديث عن الحالة الدينية/المذهبية التي تؤطر النظام السياسي في لبنان، بصفتها حالة خاصة وغريبة.

النظام السياسي في لبنان، كما ينص الدستور، نظام جمهوري ديمقراطي برلماني، هذا على المستوى النظري، أما على المستوى العملي فتركيبته دينية طائفية، الغرض منها توزيع السلطات على الفسيفساء الدينية والمذهبية. هذه البنية الطائفية لنظامه السياسي جعلت من المستحيل، أو على الأقل من شبه المستحيل، اتخاذ قرارات كبرى، دون توافق جميع الفرقاء السياسيين الموزعين على أساس ديني وطائفي. وهنا تكمن الخطورة، إذ إن التوافق بين الطوائف التي تقوم على أساس مذهبي يكاد يكون مستحيلا.

لقد نص الدستور اللبناني على أن يكون توزيع السلطات في لبنان على النحو التالي:

رئيس الجمهورية، يجب أن يكون مسيحيا مارونيا. بمعنى أنه لا يحق لمسيحي من الطوائف المسيحية الأخرى، كالروم الأرثوذكس، والروم الكاثوليك، والأقباط، والإنجيليين، وغيرهم أن يترشح لهذا المنصب.

أما رئيس مجلس النواب، فيجب أن يكون مسلما شيعيا اثني عشريا. بمعنى أنه لا يجوز لشيعي علوي أو زيدي أو إسماعيلي أن يترشح لهذا المنصب، ناهيك عن السني. وبالنسبة لرئيس الوزراء، فيجب أن يكون مسلما سنيا.

هذا التوزيع الديني الطائفي للمناصب السيادية والتنفيذية في لبنان، ربما قُصِد منه حين أسِّس دستوريا، اتقاء التجاذبات والمنافسات السياسية، وما قد يترب عليه من احتراب ديني أو طائفي، في ظل فسيفساء مذهبية قابلة للاشتعال في أي لحظة.

إلا أن هذا التوزيع الديني المذهبي للمناصب عقّد المشكلة أكثر، بدلا من أن يحلها. فرئيس الجمهورية يرى نفسه ممثلا لطائفته المارونية، وأنه من ثم، غير مرغوب به مذهبيا داخل الطوائف المسيحية الأخرى، ناهيك عن الطوائف المسلمة. ومثله رئيس مجلس النواب الذي يرى نفسه، على مستوى اللاوعي على الأقل، أنه يمثل الشيعة الإمامية الإثني عشرية تحديدا، دون أن تعده الطوائف الشيعية الأخرى، كالعلويين مثلا، ممثلا لها. أما على مستوى رئاسة الوزراء فقد يكون الوضع أخف بكثير، نسبة لعدم وجود تعدد سني مذهبي في لبنان.

نتيجة لهذا الوضع الغريب والمعقد، فإن القرارات الكبرى، كما ذكرنا آنفا، تمر بمزالق ومطبات وانعطافات وتراجعات قبل اتخاذها، نتيجة صعوبة التوافق المذهبي والديني. ولو أردنا أن نضرب مثلا لذلك من القريب، لوجدنا أن مجلس النواب، المعني بانتخاب رئيس الجمهورية، قد فشل على مدار خمس وأربعين جلسة، امتدت من مايو سنة 2014 وحتى 2016، في انتخاب رئيس للجمهورية، خلفا للرئيس ميشيل سليمان، بسبب عدم اكتمال النصاب القانوني، نتيجة عدم توافق القوى السياسية على تسمية الرئيس الجديد.

في ظني أن هذه البنية المذهبية للنظام السياسي اللبناني خلقت مشاكل عديدة للمواطنة، إذ بات يُنظر إلى من يشغل أحد المناصب السيادية على أنه ممثل لطائفته فحسب، وهذا ينعكس بالضرورة على وعي المواطن اللبناني تجاه انتسابه للبنان الوطن، وليس للبنان المذهب أو الطائفة.

ولربما يكون هذا الوضع المتمثل في تضعضع قيمة المواطنة، بصفتها قيمة مدنية لا علاقة لها بالمذهب أو الطائفة، أحد أسباب قابلية الوضع اللبناني للتدخلات الخارجية، وخاصة التدخل الإيراني الذي جرى سيله فـ»طمّ الوادي على القرى»، كما هي عبارة ابن رشد.

في تقديري أن أول، وأهم خطوة يراد لها أن تساهم في إصلاح الوضع المتردي في لبنان، تكمن في إعادة النظر في البنية المذهبية للنظام السياسي، بجعلها بنية مدنية لا تشترط في من يتولى المناصب أن يكون من طائفة، أو مذهب، أو دين بعينه، بقدر ما تشترط صلاحيته للمنصب. وهذا، وإن كان دونه خرط القتاد، إلا أنه يظل الخطوة التي لا بد منها لما بعدها.