أبدأ كلامي بتحية الأستاذ خالد محمد خالد لأن له منزلة كبيرة في نفسي من قديم الزمن. وإجابة على تساؤله أحب أن أوضح شيئًا هو أن الكاتب أحيانًا قد يقصد شيئًا، والعمل الذي يكتبه يحقق هذا الشيء وأشياء أخرى، ولذلك فإن أي عمل لي لم أعرف أبعاده كلها إلا بعد النقد، وهذه حقيقة أحب أن أعرضها في الأول، وطبعا الأستاذ خالد يدركها تمامًا، لأنه من الكتّاب، وإن كان هو ككاتب ومفكر يعرف هدفه ويعرف كيف يصل إليه، لكن الفن ليس هذا فقط لأنه يكون هناك جزء في الوعي، وأجزاء في اللاوعي تطلع مع القلم.

وعندما أسأل نفسي الآن «أولاد حارتنا» كيف كتبتها ولماذا؟ الحقيقة أنني كنت في ظروف سنة 1959 قد بدأت أشعر بشيء من الخيبة بالنسبة لثورة يوليو 1952، فهي قد جاءت وحققت أعمالًا عظيمة، ولكن بدأنا نسمع كثيرًا: اليوم قُبض على فلان، اليوم يعذبون فلانًا، وفيه ناس تستفيد فوائد كبيرة جدا إلى أن أصبحوا أكثر من الإقطاعيين، وأشياء من هذا النوع، وبدأ الواحد بعد الفرحة الأولى يرمش «شوية» فصورت حارة مصرية تماما، وهناك «وقف»، وهذا «الوقف» لخير الحارة، وقد وقع بين فريقين، فريق فتوات تريد أن تنهبه، وفريق آخر طيب يريد أن يحافظ على وصية «الوقف».. وهذه كلها حاجات مصرية.

ومن الرؤية السياسية في الوقت نفسه كنت أفكر في مظلة تاريخ الإنسانية، ففكرت في الوصية الكبرى، وفي هؤلاء الناس الذين حاولوا تحقيقها للإنسانية، وكأنني أريد أن أقول من خلال هذا لرجل الثورة في الآخر: أنتم مع أي فريق، فريق الفتوات، أم مع فريق الرسل، وهذا هو الذي كان في ذهني عندما كتبت.

هل هذا طلع بالضبط أم أن هناك أشياء أخرى طلعت معه؟ هذه هي الحكاية كلها.

والأمر الذي لا شك فيه أنني في حياتى لم يأت لي شك في الله، وإذا كنت قد بدأت أفهم الدين فهمًا خاصًا في وقت المراهقة، فإنني قد فهمت الإسلام على حقيقته تمامًا بعد ذلك، بل أعتقد اعتقادًا جازما وحازما أن لا نهضة حقيقية في بلد إسلامى إلا من خلال الإسلام.

الرواية طلعت وقرأها الناس ثم انهالت الاتهامات، والاتهامات كانت بناء على عريضة سيئة أرسلت للأزهر، والأزهر بيني وبينك لا يقرأ روايات مسلسلة، المهم قرأ الرواية على أنها تاريخ، وليس على أنها رواية.

والذين أرسلوا العريضة للأزهر، قالوا فيها إن نجيب محفوظ يفرض فلانا ربنا، وفلانا النبي، فاعتبروا هذا تجسيدًا لله، وليست حارة وناس.

لا.. هم اعتبروها ربنا بالذات. «طيب هو ربنا بيتزوج واللا ربنا بيخلف أو بيتعارك؟! «.

ودخلنا في سوء تفاهم أدبي لا حصر له. وهناك من قالوا إن الرواية لا تخلو من التصوف والإيمان.

ثم جاء الرد الحاسم متمثلا في إدارة النشر التي قالت لى:

نحن لا نريد أن ندخل في مشاكل مع الأزهر، وإذا كنت تريد أن تطبعها اطبعها في الخارج.

قال لي الأستاذ المرحوم «الخولي» وهو كان مدير الرقابة على النشر:

هل أنت مستعد أن تتناقش معهم؟

فقلت له: نعم أنا على استعداد.

وكنت أنا مدير الرقابة على المصنفات الفنية. فقال لي: تأتي لي في المكتب يوم الإثنين، وسيكونون موجودين، وذهبت في الميعاد ولم يأت أحد. فقال لي الأستاذ الخولي: على العموم عندما يأتون سأرسل إليك كي تأتي، ثم فات على هذا الكلام ثلاثون عاما ونسيت الرواية لأنها ليست مطبوعة في مصر أبدا، وذكرياتها سيئة، إلى أن جاءت جائزة نوبل، فحدثت كل هذه الزوبعة وهي زوبعة غريبة، حتى الناس الذين قالوا إننى أستحق العقاب، طيب ما أنا كنت أستحقه من ثلاثين عاما.. لماذا بعد الجائزة؟ ودي حكاية «أولاد حارتنا».