كان الشاعر أحمد إبراهيم الغزاوي في الـ76 من عمره، يوم أقيم «المؤتمر الأول للأدباء السعوديين»، بمكة المكرمة، في غرة ربيع الأول عام 1394. كان أسن الأدباء الذين شهدوا المؤتمر، وربما جاز أن نعتده شاعرا قديما، عاش خطوبا وأحوالا، لم يعرفها أنداده من الأدباء والمثقفين، ويكفي أن يقال: إنه ولد في مكة المشرفة، سنة 1318 = 1900، في أواخر العصر التركي في الحجاز، فلما أطلق الشريف حسين بن علي – أمير مكة، آنئذ – رصاصة الثورة العربية على الدولة العثمانية، سنة 1334 = 1916، كان في الـ16، وكان في الـ25 لما دخل الملك عبدالعزيز مكة سنة 1343 = 1924، ولا جرم أن كان شاهدا على عصر انطوى على حوادث وأحوال، لم تفسح لسواه، فكان، بهذا المعنى شاعرا «قديما».

وليس بعيدا أن المؤتمرين، وفيهم الأدباء والأساتذة والمسؤولون، كأنما استعدوا لسماع قصيدة «غزاوية» جديدة لا تباين مطولاته التي كانت، لا ريب، سجلا أمينا لتاريخ البلاد وترقيها، صور فيهن شاعر مكي حبه لبلاده، وولاءه لأولي الأمر، حتى لقب بـ«حسان عبدالعزيز»، لا ينازعه فيه أحد، لكن الغزاوي – في ذلك الصباح – إنما يرتقي منبرا جمهوره من أهل الأدب والثقافة والتعليم، ولعله، لما أعد نفسه لهذه المناسبة، نظر في أسماء الأدباء السعوديين - وما منهم إلا وكان المؤتمر أسمى غاياته - فكان منهم من ينزله منزلة الترب، ومنهم من كان في حكم الصديق أو الزميل، وأكثرهم كان بمنزلة الابن لشيخ أبلته السنون، وعما قريب سيعانق الثمانين.

مر بنا أن الغزاوي كان شاعرا «قديم» الزمن، عرف من ألوان الأدب والثقافة، في مكة المكرمة، وفي مدن الحجاز، ما لا يعرفه سواد المؤتمرين، وقد طالما قال لقرائه: إنه عاصر أقواما كان الأدب عندهم لا يجوز «مقامات الحريري»، وأخبار «أبي زيد الهلالي». كان «علم الأدب» يعني لتلك الطبقة من العلماء وطلبة العلم ما غبر على المكيين من علوم الآلة، واللغة، والتفسير، والحديث، وكان الشعر العربي الأصيل، لدى أولئك الأشياخ، هو ما تتجاوب به الأصداء في حلقات الدرس في المسجد الحرام. كان الغزاوي يتذكر هيئاتهم، وسحنات وجوههم، ويوشك أن يراهم، وهم يلتفون على العلماء الأعلام، أولئك الذين ازدحمت بهم حصيات المسجد وأروقته، و«حولهم من الطلاب الشباب هالة لا تقل عن المئة أو الثمانين في أقل تقدير، وأمامهم (المقرئ)، و(اللالات والفوانيس ذات الشمع الأبيض، أي شمع الحوت) يتناولون الشرح والإيضاح في إسهاب وإطناب وانطلاق على الطريقة التقليدية». لكن الحجاز عرف أدباء من الجيل الماضي استفرغوا الجهد والوسع في الأدب – كما يعرفه الجيل الحاضر – مهما كانوا أهل فقه وحديث ولغة ونحو، يذكر منهم عثمان الراضي، وإبراهيم الأسكوبي، وعبدالجليل برادة، وعبدالحميد قدس، وعمر الكردي، وعبدالمحسن الصحاف، فإذا أبعد في الزمان أذكر قراءه بشاعر كان له شأن أي شأن في الحجاز، فيلم، مسرعا، باسم عبدالواحد الأشرم «الجوهري»، وحسب هذا الشاعر أن تداول المغنون في مكة المكرمة أشعاره، ومن بينها بيته، الذي كم أمال وكم أعجب:

على جيد هذا الظبي فلينظم الدر *** وإلا فما للدر فخر ولا قدر

أما اليوم – عام 1394 = 1974 - فالأمر مختلف جدا. كأنما استعاد أحمد الغزاوي وجوها وأحداثا، قبل أن ينشئ في أول مؤتمر للأدباء السعوديين قصيدة. أتراه سينظم «غزاوية» جديدة، يخلصها، بتمامها، للمؤتمر، والقائمين عليه؟ لكنه يشهد تاريخا جديدا هو حفي به، لا يشك في ذلك من اتصل بتاريخ هذا الرجل، وما أنشأه من شعر ونثر. أجل، كان كثير التلفت إلى الماضي، حتى لكأنه لم يترك لفظة، ولا عادية، ولا موروثا كان فبان، إلا أثبته، وأبقى لمن جاء بعده أثرا جليلا منه، أعني «شذراته»، تلك التي نشر قدرا طيبا منها في صحيفة الندوة، ثم اعتاد قراء مجلة المنهل الظهور عليها، قبل أن تحسن المجلة إلى الثقافة وإلى القراء، فتخرج شذرات الغزاوي في سفر عظيم، فيه ما شئت من لغة، وتاريخ، وتراث، وعادات، وتقاليد، وفن، وأساطير. فما تراه سيقول في ذلك الحفل الذي تأخر زمانه، حتى استيأس الأدباء الشيوخ منه؟

أقرب الظن أن الأدباء السعوديين – ومعهم المسؤولون وأساتذة الجامعة – أحسوا أن الشاعر أحمد الغزاوي باغتهم بغير ما يتوقعونه، فأصغوا إلى «غزاوية» غريبة المطلع:

عرفت من ذات نفسي غير ما عرفوا *** فمن يلوم.. إذا ما قمت أعترف؟!

وحينئذ، أحس الأدباء، وأحس المسؤولون، وأحس الجمهور نأمة جديدة. وكأني أتخيل ما اعتلج في صدورهم. قال قوم: إن الشاعر الشيخ يعترف، وقال آخرون: كأنه يودع أترابه وأحبابه، أو عساه استطال دهره، وقيل وقيل.. وجائز أن يكون كل ذلك: أن يعترف، ويودع، ويستطيل دهره، ونزيد، فنقول: ويستأمن الأجيال الجديدة «وديعة» الأدب، ويلقي عليهم وصاته!

وقصيدة الغزاوي طويلة، بلغت 61 بيتا، ولم تخل من مديح، وإشادة، لمليك البلاد، والقائمين على الجامعة، ولأهل الصنعة من الأدباء، وفيها غير ذلك كثير. لكن فيها هذه الوصية، أو ما يشبه أن يكون «كشف حساب ختامي»، إذا جاز اصطناع هذه العبارة المصرفية.

ربما عددنا البيت الأول مفتاح القصيدة، وبيت القصيد فيها، يدل على ذلك أنه كأنما لخص القصيدة كلها، فكان ما بعده عيالا عليه، ويقويه أن القصيدة أنسيها الناس، ولم يتبق منها إلا بيتها الأول، يتذكره من أم ذلك المؤتمر. والحق أنه بيت كأنما فصل على مقدار النفوس، كان عهدي به، أول مرة، يوم سمعت الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين ينشده، فإذا به، عقب ذلك، يكثر إنشاده، كلما اقتضاه حادث على أن يتمثل به.

ومجمل ما يقال في القصيدة – إذا جاز إجمالها – أن الشاعر الشيخ القديم مبتهج بما صار إليه أمر الأدب في بلاد كان الشعر أظهر خلالها، حتى إذا تقدمت القرون ضمر شأنه فيها، ثم عاد، فتيا جديدا، على ألسنة نفر من أبنائها، كان أحمد الغزاوي معدودا فيهم.

هذا ما يقوله تاريخ الأدب، لكن الغزاوي في وصيته، أو في «كشف حسابه الختامي»، لا يقول ذلك! إنه يقول للقوم الذين عدوه رائدا: إنني أعرف بنفسي منكم، فكان البيت الأول، وكانت القصيدة كلها:

فما توهمت أني شاعر، أبدا *** فيمن شأوني؟ وما كاللؤلؤ الصدف

وجدتني بعض حين في مساجلة *** مع اللدات، بهم أعدو ولا أقف!!

قالوا: لأنت أخو مروان مرتجزا *** ولست إلا أبا الخطاب إذ يصف

وما زهير ولا الأعشى ورهطهما *** ولا جرير سوى الإلهام ينقذف!!

كانت (مجاملة) منهم أخذت بها *** حتى حسبت بأني مثل ما وصفوا!!

في فترة من (خواء) طالما قنعت *** بكل ما هو سوء الكيل، والحشف!!

ولنا أن نحمل قصيدة الغزاوي على أنها ضرب من التواضع، يدرع به شاعر في حفل هو فيه من الرواد المكرمين؛ ولنا أن نعتدها اعترافا، أو نقدا ذاتيا سلطه الشاعر على نفسه؛ فالميدان – كما قال – كان خلوا إلا منه، وللصبا نزوات، لم يأخذها بالأناة ولا الصبر، ثم كان الطموح، ذلك الذي بلغ به ما بلغ، لكنه يعود، فيلتمس لنفسه ولأترابه الأعذار؛ حمل أولئك الرواد الأمانة وأدوها إلى من جاءوا في أثرهم، فكانوا هم «الطلائع» التي طالما تحينت الجزيرة العربية زمانهم، ولم يؤذن لهم إلا حينما أطل عليها الفجر الجديد، فكان منهم أولئك الأدباء الذين اجتمع شملهم في المؤتمر الأول للأدباء السعوديين، فجاهد الغزاوي وطبقته من الأدباء والشعراء، من أجل ذلك الفجر الأدبي:

حتى أطل علينا الفجر، وانطلقت *** مواهب في الشباب النضر تختلف!!

هم الطلائع والأفواج موفضة *** وملء أبرادها التصميم واللهف!!

كأنما كان هذا المؤتمر فيصلا بين زمنين وعهدين؛ كأنما كان إيذانا بغروب شمس «الرواد» كلهم. غام ذلك على أترابه ولداته، وألهمه الغزاوي وحده، وكان تكريمه «رائدا» من رواد الأدب، إيذانا بخاتمة عهد وبداءة عهد، رآه «حسان عبدالعزيز» – وهذا لقبه الرسمي – في ذلك الجمع من الأدباء، ورآه بعضهم غنيمة يؤوب بها إلى داره وأهله، وكان الغزاوي – وهو يحصي مظاهر النهضة – ليس شاعرا همه المديح، وإنما كان شاهدا على عصر يتغير، ووطن طالما رجاه وحلم به، وجعل يقابل بين شعر أدركه في شبابه، هو أدنى إلى الزخرف واللعب، وشعر نزع هو وجيله ما خالطه من ألوان الضعف والفسولة، حتى استوى قوي البنية شديد الأسر، وإنه ليخشى – كعادة الشيوخ من أقرانه – أن ينزل الشعر الجديد، آنئذ، بمرتبة كم كابد هو وجيله في طلابها، فقال خائفا هلعا:

لا نبتغي الشعر ضحضاحا، ولا هذرا *** ولا تهاويل فيها العقل ينحرف!!

ولا رموزا!! وتهويما!! وشعوذة *** ولا شذوذا، به التهريج يجتدف!!

وإنما هو ما يشدو الهزار به *** لحنا.. ويملكنا الإعجاب والدنف!!

وما به نصل الماضي بحاضرنا *** ولا يكدره.. بالوحل من ضعفوا!!

وما يثير بنا الأشواق حافزة *** إلى النهوض، وما استهدى به السلف!!

أما الهراء.. وأما ما يقيء به *** فإنه القرف، نغثى منه، والقرف!!