يمثل العقل البشري اليوم أهمية كبرى في العلم والبحوث الحديثة، فهو آخر معاقل الخصوصية التي يتمتع بها الإنسان المعاصر، ولذا تعد السيطرة عليه والتلاعب به الكأس المقدسة للبحوث والدراسات العلمية الحديثة، وللأسف فإن العلم حتى وإن كان له جوانب إنسانية فإن له جوانب لا إنسانية ولا أخلاقية، وبعض من الدراسات اللغوية الحديثة، وإن أخذت طابعا علميا رصينا ولبست لباس الوقار العلمي، فإن لها جانبا لا أخلاقيا مستترا يسعى إلى تزييف العقل والتلاعب به أو الانحراف بإرادته نحو أهداف مرسومة مسبقا، عن طريق اللغة وربط دراستها بالدماغ، مع أن اللغويين واللسانيين لا يملكون الاطلاع والتدريب الكافي للتعامل مع مجال رحب ومعقد مثل الدماغ الذي لا يزال صندوقا مغلقا مليئا بالألغاز، والذي عجز حتى أطباء الأعصاب والتشريح في الكشف عن مكنوناته، فما بالك بالمتخصص في الترجمة أو الأدب الإنجليزي أو اللغة وآدابها.

وكما هو معلوم أن اللسانيات التوليدية تهتم بدراسة النحو انطلاقا من فرضية تقول إن اللغة موضوعها الدماغ وإن الإنسان مزود فطريا بملكة اللغة، وفي سبيل ربط النحو بالدماغ، قالوا إن هناك بنية عميقة للنحو ومحل دراستها الدماغ، ومن هنا انطلقوا لدراسة اللغة في الدماغ، والسؤال الذي يقفز للذهن مباشرة، هل هناك رابط من أي نوع بين لسانيات تشومسكي وبين برامج السيطرة على العقل التي تورطت بها جامعات غربية عريقة عبر علاقاتها السرية مع وكالات الاستخبارات في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية؟

في اعتقادي أن كثيرا من الدراسات اللغوية الغربية اليوم قد تأثرت بشكل أو بآخر، بشكل مباشر أو غير مباشر، ببرامج السيطرة على العقل، فاللغة تلعب دورا هاما في عملية التأثير على العقول والتلاعب بها، وليس من المستغرب توظيف الدراسات اللغوية في عملية غسيل الأدمغة وتغيير المعتقدات والانتماءات وعمليات الدعاية والإعلان بأشكالها كافة، ولا يوجد لدينا شك بأن هذه الأهداف غير الأخلاقية لدراسة اللغة تعد شكلا من أشكال الاستغلال السيئ للعلم.

كيف بدأت فكرة السيطرة على العقول، وما هي الظروف السياسية والدولية التي أفرزت هذه الأشكال البشعة من التجارب على البشر؟ بعد هزيمة النازية في الحرب العالمية، واضطرار كثير من العلماء النازيين للهجرة، استقطبت الحكومة الأمريكية نخبة من أفضل علماء وباحثي النازيين، وذلك ضمن برنامج عُرف باسم «Paperclip Project» بعد أن منحوا صكوك براءة، واستقروا وأفراد أسرهم بهدوء تام في البلد الجديد بعد أن اسقطت عنهم كل التهم، ذلك أن بعضهم حوكموا بتهم ارتكاب جرائم حرب.

كان لقرار استقطاب علماء النازيين ما يبرره، كون الولايات المتحدة على مشارف الدخول في سباق حرب باردة ضد السوفييت، ستلعب فيها الدعاية والحرب النفسية دورا كبيرا ضد الخصوم وعقائدهم، ولا يخفى علينا الخبرة الطويلة التي يملكها النازيون في مجال السيطرة على العقول وغسيل الأدمغة وعمليات الاستجواب ضد السجناء والمعتقلين عن طريق تقنيات مبتكرة باستخدام عقاقير الهلوسة والحرمان الحسي والانتهاكات الجسدية.

فهل هناك علاقة مباشرة بين برامج السيطرة على العقل وبين كثير من الدراسات الغربية في حقل اللسانيات؟ لا توجد علاقة مباشرة ولكن هذا لا يمنع من القول إن الاهتمام العلمي بالعقل والسيطرة عليه في حقبة ما بعد الحرب العالمية قام بتوجيه اهتمامات اللسانيين الغربيين نحو الاهتمام بالدماغ وعلاقته باللغة، كون البحوث المتعلقة بالسيطرة على العقول تحظى بتمويل حكومي سخي، وكون اللغة كما أسلفنا تمثل سلاحا ذا حدين وبالإمكان توظيفها في تشكيل عقول الناس وصبها في قوالب محددة في عمليات دعاية منظمة شاملة، وهناك دراسات لسانية تحوم حول هذه الأهداف كالإشهار والبرمجة العصبية اللغوية.

ولا تقتصر عملية تشكيل الأدمغة والتلاعب بها على عالم السياسة الخفي، بل إنها سلكت الطريق نحو عالم التجارة والأعمال، بهدف تسويق السلع والمنتجات، حيث تقوم شركات الإعلان التي تعتمد على العلماء والباحثين بعملية تزييف للوعي وخلق حاجات مصطنعة لا يحتاجها المستهلك، وتلجأ لتحقيق ذلك لأساليب تتعارض مع مقومات التفكير السليم.