أيقونة قلوب العشاق، ورفيقة رفقاء الصباحات الندية القيثارة «فيروز» أحالت بصوتها الماسي هجاءات الشاعر جوزيف حرب «لأيلول» كما لو أنها ثناءات عاشق، فجوزيف لم تختزن ذاكرته من ملامح أيلول سوى غيماته الحزينة، وورقه الأصفر أسفل الشبابيك، ووحدة قمره، ومطره الذي يستجلب البكاء لا الفرح كعادة المطر في أي شهر كان، والأدهى أنه جعل أيلول غريبًا كغربة الحبيبة التي سافر حبيبها ذات خريف.

شهر أيلول (سبتمبر)، يحل علينا -نحن العرب- بذكريات مُرَّة، نسترجع فيها نكباتٍ ونكساتٍ لا حد لبشاعتها، وشناعتها. وبما أننا كائنات صوتية تمشي على رجلين، فقد أحببنا الفجيعة والتفجع والتوجع، وعشقنا إلقاء اللوم واللائمة على أي شيء يغذي شعورنا بالانسلال من المسؤولية، والانسلاخ من التبعة وإلقائها عن كواهلنا في أقرب منعطف.

ولا يمر أيلول علينا إلا ونسترجع فيه ألماً أو ألمين أو أكثر من ألم، فللعرب في أيلول سواد كثير، وهمٌّ ثقيل وإليك بعض الأمثلة: في اليوم الأول منه من العام 1969 انقلب القذافي على الملك إدريس السنوسي وانفرد بالسلطة، وفي ذات اليوم من عام 1971 أعلن رسميًا عن قيام اتحاد الجمهوريات العربية والذي ضم مصر وليبيا وسورية، في اتحاد شكلي يساند ويعزز ظاهرة الصوت العربية لا أكثر ولم يؤدِ أي دور يذكر.

وفي الخامس منه من العام 1972 فلسطينيو منظمة أيلول الأسود -لاحظ الاسم- يهاجمون مقر البعثة الإسرائيلية في ميونخ ويقتلون 11 رياضيًا إسرائيليًا، ليساهم ذلك في ملاحقة وتجريم القضية الفلسطينية في كل أنحاء العالم وتجلب تعاطفًا كبيرًا لإسرائيل، وفي الثامن منه من العام 1980 تعود الظاهرة العربية الصوتية للبروز عبر مباحثات أجراها الرئيسان الصوتيان الليبي معمر القذافي والسوري حافظ الأسد في طرابلس للوحدة بين بلديهما، وفي العاشر منه من العام 1961 تصل القوات العربية المشتركة المكوّنة بقرار من جامعة الدول العربية إلى الكويت بعد أن هدد حاكم العراق عبد الكريم قاسم باحتلالها، وفي الحادي عشر منه من العام 2001 هجوم بالطائرات يستهدف مبنى مركز التجارة العالمي في ولاية نيويورك ومبنى وزارة الدفاع الأمريكية في فيرجينيا، وأصابع الاتهام تشير إلى تنظيم القاعدة، وفي الثالث عشر منه من العام 1882 أحمد عرابي ينهزم في موقعة التل الكبير ويبدأ منها احتلال إنجليزي لمصر سيدوم 72 سنة، وفي السادس عشر منه من العام 1982 تنطلق بشاعات مذبحة صبرا وشاتيلا في لبنان، وفي السابع عشر منه في العام 1970 تندلع أحداث أيلول الأسود في الأردن، بين الجيش الأردني ومنظمة التحرير الفلسطينية، وفي ذات اليوم من العام 1978 السادات يوقع اتفاقية كامب ديفيد، التي جرمها العرب، ثم تمنوا لاحقًا الحصول على بعض مكتسباتها، وفي الثاني والعشرين منه من العام 1980 نشبت الحرب بين العراق وإيران واستمرت 8 سنوات، وفي ذات اليوم منه من العام 2006 يقوم الظاهرة الصوتية الجوفاء الأكبر على مر التاريخ العربي المعاصر حسن نصر الله بالدعوة لأكبر تجمع شعبي في تاريخ لبنان لدعم المقاومة الإسلامية اللبنانية ضد إسرائيل والاحتفال بالانتصار عليها بحرب تموز، وفي السابع والعشرين منه من العام 1997 يتولى محمد البرادعي رئاسة الوكالة الدولية للطاقة الذرية في أكبر نكبة على العراق في القرن العشرين.

وعودةً على أيلول الأسود، فمن أشد أيام أيلول سوادًا على العرب اليوم الذي عرف بأيلول الأسود حينما قامت معركة بين الجيش الأردني وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية عام 1971، وبدأت القصة عندما خسرت الأردن الضفة الغربية عام 1967، قام المقاتلون الفلسطينيون بنقل قواعدهم إلى الداخل الأردني وصعّدوا هجماتهم على إسرائيل، فكان الرد الإسرائيلي بالهجوم على معسكر لمنظمة التحرير في بلدة الكرامة، وتطور الأمر إلى معركة واسعة النطاق، عرفت بمعركة الكرامة عام 1968 مما أدى إلى زيادة الدعم العربي للمقاتلين الفلسطينيين في الأردن، ومن هذا الدعم نمت قوة منظمة التحرير في الأردن، وتغوّلت حتى أصبحت دولة داخل الدولة الأردنية، وبحلول عام 1970 بدأت الفصائل الفلسطينية بالمطالبة بالإطاحة بالحكم الهاشمي علنًا، وتجاهل الفلسطينيون القوانين واللوائح المحلية الأردنية، بل أكثر من ذلك قاموا بمحاولة اغتيال الملك حسين مرتين، ما أدى إلى مواجهات عنيفة بينها وبين الجيش الأردني في يونيو 1970.

وحينما قامت منظمة التحرير باختطاف عدة طائرات والهبوط بها في ميدان داوسون «المطار الثوري» للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بالأردن، وأخذوا مواطنين أجانب كرهائن، ثم قاموا بنسف تلك الطائرات أمام العالم، أمر الملك حسين الجيش بالتحرك، وفي 17 سبتمبر (أيلول) حاصر الجيش الأردني المدن التي بها وجود لمنظمة التحرير، وبدأ بقصف الفصائل الفلسطينية بالمدفعية الثقيلة والدبابات، وقاد الضغط المتصاعد الذي قامت به الدول العربية الملك حسين إلى وقف القتال، ووقع اتفاق مع عرفات لتنظيم وجود الفدائيين، بيد أن الجيش الأردني هاجمهم مرة أخرى، وطرد الفدائيين الفلسطينيين من الأردن.

سمح الأردن للفصائل الفلسطينية بالتوجه إلى لبنان عبر سورية وبعدها أصبحوا أحد الأطراف المحاربة في الحرب الأهلية اللبنانية، ليكونوا من جديد بؤرة توتر وقلق للبلد الذي يتكرم ويتفضل باستقبالهم.

تأسست حينها منظمة أيلول الأسود أثناء النزاع لتنفيذ عمليات انتقامية. وأعلنت المنظمة مسؤوليتها عن اغتيال رئيس الوزراء الأردني وصفي التل عام 1971، وعملية ميونيخ في عام 1972.

اقرؤوا اتفاقية البنود السبعة، لتعلموا مدى التغول الفلسطيني داخل الأردن حينها، واقرؤوا الكتاب الوثيقة (فلسطيني بلا هوية) لصلاح خلف المعروف بأبي إياد، مؤسس منظمة أيلول الأسود.

أخيرًا، يُجَمِّل أيلول، أن فيه يومنا الوطني المجيد، وهو ذاته بداية الاعتدال الخريفي العليل، حمى الله مليكنا وأميرنا وشعبنا ووطننا.