يمثل التطوع أهم أدوات المجتمع المدني التي باتت الدول تعتمد عليها لتحقيق العديد من الأهداف التي تحتاج إليها المجتمعات، والتي يصعب على الحكومات وأجهزتها الرسمية القيام بها، لذلك تكتسب الجهود الطوعية قدرة كبيرة في التحرك وتحقيق الأهداف المرصودة بما تمتلكه من سواعد شابة وارتباط المتطوعين بالمجتمعات ومعرفتهم بخصائصها وتفاصيلها.

كذلك فإن من المكاسب التي تتحقق عن طريق دعم وتعزيز جمعيات العمل الطوعي زيادة الإحساس بالانتماء وسط الشباب الذين يمثّلون في الغالب الجزء الأكبر من المتطوعين، فهو يرفع من الروح الوطنية لهؤلاء الشباب، ويصقل قدراتهم ويزيد مهاراتهم ويدفعهم إلى الإحساس بالمسؤولية ويعودهم على العمل وهو ما يؤدي في الآخر إلى زيادة الوعي الفردي والمجتمعي.

ونظرة سريعة لخصائص التركيبة السكانية في المملكة تؤكد أننا نمتلك كنزاً لم نحقق منه الاستفادة الكاملة، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار أن الغالبية العظمى من السعوديين هم من فئة الشباب الذين لا تتجاوز أعمارهم 35 سنة، كذلك فإن شبابنا يمتاز بالرغبة في الإسهام في بناء الوطن وتنفيذ البرامج التي تعود على مواطنيه بالخير.

وقد أكدت بعض التجارب العملية صدق ذلك، فما نشاهده خلال مواسم الحج من شباب غض يجند نفسه لخدمة ضيوف الرحمن في هجير الشمس وأثناء الليل تسبقهم ابتساماتهم الصادقة، كذلك ما شهدناه خلال جائحة كورونا التي نعيش تفاصيلها هذه الأيام، فقد تسابق عشرات الآلاف من الشباب إلى تسجيل أسمائهم في منصة تطوع ونذروا أنفسهم لتقديم كافة ما يطلب منهم، وقد لفتت تلك النماذج المضيئة الانتباه وحازت الإعجاب.

هذا الكنز الكبير يمكن الاستفادة منه لتحقيق العديد من الأهداف، خصوصاً إذا ما تم تدريب هذه السواعد الفتية على أحدث متطلبات العمل الطوعي، وتأهيله ليكون بمثابة قوات احتياط نستفيد منها عند الحاجة، فهذا المجال لم يعد كما كان في الماضي، وتعددت أوجهه وجوانبه، ودخلت عليه الكثير من المصطلحات بسبب تقدم الزمن وتطور العصر وتعدد الاحتياجات، للدرجة التي أصبح فيها علماً قائماً بذاته، لذلك خصصت وكالات الغوث الإنساني ومنظمات الأمم المتحدة كليات لتخريج كوادر شبابية قادرة على الإيفاء بالمتطلبات المطلوبة منهم، وفق معايير وأسس علمية محددة.

ولا تقتصر أدوار العمل التطوعي على حالات الكوارث الطبيعية والأزمات، بل إن هناك حاجة ماسة لاستمرار هذا العمل بصورة متواصلة، فعلى سبيل المثال هناك فئات وشرائح فقيرة في المجتمع بأمس الحاجة لمن يقدم لها المساعدة والعون، وليس بالضرورة كذلك أن يكون الدعم في صورة مادية، بل تكون الحاجة مساعدة قانونية، ومن واقع ارتباطي بالعمل الحقوقي، فقد قابلت كثيراً من الذين يواجهون مشكلات قانونية أو يحتاجون إلى استشارات ولا يملكون القدرة أو المعرفة للحفاظ على حقوقهم المعرضة للضياع، لذلك نشأت الكثير من الجمعيات التطوعية التي تقدم هذه الخدمات للمحتاجين دون مقابل، مثل الترافع عن غير القادرين على دفع أتعاب المحاماة، أو تقديم العون الحقوقي للمستحقين، أو المشورة القانونية لرواد الأعمال المبتدئين، ومن هذه الجمعيات جمعية إحسان التي أتشرف برئاسة مجلس إدارتها، والتي قدمت في وقت وجيز من تأسيسها جهداً متميزاً.

ويمتد عمل الجمعيات التطوعية القانونية ليشمل جوانب أخرى، مثل نشر الثقافة القانونية في أوساط المجتمع، عبر إقامة الفعاليات المتنوعة، ونشر المطبوعات المتخصصة، وإقامة حلقات النقاش، لا سيما في هذا العصر الزاهر الذي تسعى فيه الدولة لنشر الثقافة القانونية وجعلها جزءاً من المجتمع، وإدراجها ضمن المقررات الطلابية. كذلك تهتم تلك المؤسسات بنشر الثقافة الحقوقية وسط كافة المواطنين. وبمناسبة اليوم العالمي للقانون الذي يصادف بعد غد الثالث عشر من سبتمبر نتقدم بالتحية لجميع العاملين في مجال القانون من أكاديميين ومحامين وقضاة وموظفي قضاء وشؤون قانونية وجميع من يبذل جهوده لتطبيق القانون، فالجميع عليه الالتزام بتجسيد وتطبيق مبدأ سيادة القانون لتنظيم حياتنا (حقوقنا وواجباتنا)، كون حقوقنا هي واجبات على الآخرين، وواجباتنا هي حقوق للآخرين والقانون هو من يحدد وينظم كل هذا وينظم إيقاع حياتنا، واليوم العالمي للقانون فرصة لتعزيز تطبيقه.

هناك أيضاً جانب على قدر كبير من الأهمية للقيام بواجب التطوع تضطلع به تلك الجمعيات في القطاع غير الربحي، يتمثل في التنسيق مع الشركات ومكاتب المحاماة في المملكة لتنظيم دورات تدريبية لحديثي التخرج في كليات القانون والشريعة، وهو ما أعتقد أنه أهم الأدوار التي ينبغي التركيز عليها ومنحها الأولوية، وذلك إسهاماً في رفع كفاءة الشباب السعودي ومنحه القدرة على المنافسة في سوق العمل عبر زيادة مهاراته، وهو ما نادت به رؤية المملكة 2030، باعتباره المدخل الرئيسي لتحقيق الأمن المجتمعي، فأولئك الخريجون لا بد من إكسابهم الخبرات اللازمة، والصبر عليهم حتى تقوى أعوادهم ليكونوا قادرين على القيام بمهامهم الجسيمة.

ختاماً، فإن ثقافة العمل الطوعي راسخة في تراثنا الإسلامي الغني ويمكن إدراجها ضمن فروض الكفاية، والمجتمع السعودي الذي ترتفع فيه نسبة الخيرين، قياساً على المبادئ المستمدة من جذوره العربية الأصيلة وعمقه الإسلامي الأصيل، يمثل بيئة خصبة لنمو العمل التطوعي والخيري، وهو ما ينبغي استثماره وتنميته، باستصحاب احتياجات المجتمع وترتيب أولوياته وتهيئة الكوادر البشرية، وإيجاد منظومة إدارية وقانونية لتصبح مظلة تنضوي تحتها كافة المنظمات الطوعية ليكون عملها تحت أنظار ومراقبة الجهات المختصة ذات الصلة.