في ذلك المساء الغريب، نشط الرجل العجوز المتكور على سريرٍ أبيض من الهرم والوهن، وبدأ يستعيد بعض ذكرياته الغائرة في أعماقه، والموغلة في بعدٍ سحيق من حياته الأولى وشبابه الفتي، كانت «مزنة» عنصرًا أساسيًا في ذكرياته المستعادة تلك، والتي ختمها قائلًا: «سلم لي على مزنة يا وليدي»، أجبته: «ستلتقيها غدًا على خير»، كنت فرحًا بذلك النشاط والانتعاش المفاجئ لجدي -رحمه الله-، نظر إليَّ مع ابتسامته الرقيقة قليلة الظهور، قائلًا: «اسقني ماءً»، وقبل أن أرفع الماء إلى فمه، كبَّر، وتشهد، ثم تناول جرعات من الماء، وأمرني بتعديل الوسائد، لينام قليلًا ريثما يؤذن للفجر. عدت إلى مقعد المرافق الذي يوفره المشفى ليكون كرسيًا في النهار، ويستخدم سريرًا في الليل، بتعديل يدوي بسيط، كانت تلك السنة أول تعرفي على الكتاب الجامعة: «سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون لابن نباتة المصري»، وكان الكتاب رفيقي في ليلٍ لا يهدأ، يتجرع فيه جدي الألم مرًا، وأمر منه مكابدته للأنفة التي كانت تمنعه من التألم. صحوت من إغفاءة كالوسن، على حشرجة مكتومة، وروح تريد أن تشق سجف الصدر والسقف معًا لتلحق مع الغيوم، وكانت تلك آخر لحظات جدي.

كانت «مزنة» ذات وهج يغطي على كل وهج، حتى وهج الرجال، كانت معقد الرأي، ومبدأ الأمر والمشاورة، وزوجها النبيل على شكيمته وعزمه، لم يكن ليحد من تدفق ذلك الوهج، ولم يعمد إلى تعطيله يومًا، كان تناغمًا وتكاملًا، أخرج أبناءً يشار إليهم بالبنان، في كل مكان يطؤونه.

بين جديي -رحمهما الله- تلقى عقلي الغض أول المعاني التي صاغتها جدتي بالمقام الأول، ومن خلال تعامل جدي مع جدتي، صيغت علاقتي الأولى بالمرأة على أي شكل تكون، لم أسمع يوما من جدي كلمة نابية، أو صوتا مرتفعا، أو رفض طلب، أو صد رغبة، كانا دائمي الحنو على بعضهما، والحديث إلى بعضهما، والجلوس إلى بعضهما، لا يعقد أحدهما أمرًا دون رأي الآخر وموافقته، مهما صغر الأمر أو كبر.

جدتي -رحمها الله- شريكٌ في كل ذكرياتي الصغيرة بلا استثناء، ومن أجمل اللحظات التي تمر علي، كانت الصحو قبل الفجر، وإعداد القهوة والحليب لجدي، ثم صلاة الليل، والفجر، وبعد العودة من الصلاة، تتهادى إلى أسماعنا بلابل حنجرة عبد الباسط عبد الصمد يرتل قصار السور، والأجمل في هذا كله التمتمات بالأذكار، وصوت رشفات القهوة حينما تنساب من بين الشفاه التي شاخت.

كانت «مزنة» مستشفى كامل التجهيزات، أعظم أقسامه كان الطب النفسي، وما زلت أواجه أعتى المشكلات، وأصعبها بجملتها الشهيرة التي ظلت ترددها طوال حياتها: «كلها بتصير سوالف وعلوم»، كانت مؤمنة بالمآلات ونهايات الأمور وإشراقات النهاية، لم ترهن نفسها يوما لواقع مر أو عجزٍ تعلم علم اليقين أنه عابر، لذا ربَّت أبناءها وأحفادها، على أن معضلات اليوم هي ذكريات الغد، وكأنها تختصر المقولة المشتهرة: «كل هذا سيمضي»، وهي إلى ذلك تحذر من زوال النعم، وأنها لا تدوم، وأن صفو اليوم لا يلزم أن يعقبه صفو مثله، بل يجب الاحتياط للأكدار، هي مسيرة وسيرة تربوية تربو على السبعين عاما، تكرر هذه المعاني حتى تشربتها ثلاثة أجيال بعدها، وكأنهم هي، ذات الروح، وذات العطاء، وذات الألق والوهج.

من أجمل الذكريات، حينما كنا نتناهب الأماكن حول فراش جدتي، هذا عن اليمين وذاك عن اليسار، ثم تبدأ بسرد الحكايات الواحدة تلو الأخرى، وعندها نسبح في فضاءات عميقة من الخيالات التي تتعاقب فيها الصور الثابتة والمتحركة، والتي كانت -رحمها الله- تصوغها بحرفية عالية، فقد كانت أسطورة في القص، والسرد، إذ تجعل من قصة عادية لوحة مليئة بالألوان والأضواء والأزهار، والأشجار، والأشواق، وعلى الرغم من كثرة مسيرها في دروب الحياة، وتعبها، إلا أن أفراح روحها وصفائها تجعل كلماتها تخرج كأن بلسما يداوي الروح المعتلة، كانت كلمة (ياجنيني)، المحببة تدخل الخدر في رؤوسنا الصغيرة من لذتها وحميميتها، وتطلق طاقة كبيرة فينا، كان أجمل ما في سردية الجدة تلك الأصوات المختلفة مترنمة أو حزائنية أو فرائحية، أو تلك التنهدات من حال أبطال القصة، حينما تربطها بأبطال الحياة.

لم أكن متماسكًا وأنا أقطع المسافة بين أوثال ومستشفى الملك فهد التخصصي في بريدة، كنت مبعثرًا أوشك على التلاشي، ويكاد كياني ينتهي إلى لا شيء، ذات المكان الذي توفي فيه جدي تتوفى فيه جدتي، وهو ذات المكان الذي خرج منه جثمانهما إلى ذات المقبرة -رحمهما الله-.

كانت تعلمنا أن الأحزان أو المصائب تبدأ كبيرة بسبب استقبالنا المفاجئ لها فقط، وكل ما عليك هو الهدوء ووضعها في حجمها الطبيعي، وستصغر رويدًا رويدًا، لكنها لم تخبرنا يومًا أن مصيبتنا فيها ستبدأ كبيرة ثم تواصل التضخم والتورم في أروحنا.