قال خارجة بن زيد: دعينا إلى مأدبة، فحضرتها وحسان بن ثابت، فجلسنا جميعا على مائدة واحدة، ويومئذ قد ذهب بصره، ومعه ابنه عبدالرحمن، فكان إذا أتى طعام سأل ابنه: أطعام يد أم يدين؟، فإذا قال طعام يدين أمسك يده.

فلما فرغوا من الطعام أتوا بجاريتين، إحداهما رائقة، والأخرى عزة، فجلستا وأخذتا عودا، وغنتا بقول حسان:

انظر خليلي ببطن جلق هل تونس دون البلقاء من أحد

فسُمع حسان يقول: قد أراني بها سميعا بصيرا، وعيناه تدمعان، فإذا سكتتا سكت عنه البكاء، وإذا غنتا بكى، فكنت أرى ابنه عبدالرحمن إذا سكتتا يشير إليهما أن تغنيا فيبكي أبوه.

فلما انقلب حسان من المأدبة إلى منزله استلقى على فراشه، ووضع إحدى رجليه على الأخرى، وقال: لقد أذكرتني رائقة وصاحبتها أمرا ما سمعته أذناي بعيد ليالي جاهليتنا مع جبلة بن الأيهم، ثم تبسم وجلس فقال: لقد رأيت عشر قيان، خمس روميات يغنين بالرومية بالعود، وخمس يغنين غناء أهل الحيرة أهداهن إليه إياس بن قبيصة، وكان يفد إليه من يغنيه من مكة وغيرها، وكان إذا جلس للشرب فرش تحته الآس والياسمين وأصناف الرياحين، وضرب له العنبر والمسك في صحاف من الفضة والذهب، وأتى بالمسك الصحيح في صحاف الفضة، ولا والله ما جلست معه يوما قط إلا خلع علي ثيابه التي عليه في ذلك اليوم وعلى غيري من جلسائه، هذا مع حلم عمن جهل وضحك، وبدل من غير مسألة، مع حسن وجه وحديث، ما رأيت منه خنا قط ولا عربدة، ونحن يومئذ على الشرك.