وعلى الرغم من إدراك أولئك، أن اللغة الواحدة، أصل جامع لكل المتحدثين بها كلغة أم، حتى وإن لم تكن جذورهم الأولى عربية، إلا أن الشعوبية أعمت أعينهم، وطمست على قلوبهم، خصوصًا من كانت صلته بالفرس أو الترك وطيدة.
وفي زماننا هذا ويومنا القائم، هناك نُذرٌ بارتداد الكَّرة مرة أخرى، ولكن بصورة عكسية، كردة فعل خارج سياق التاريخ، وإن كانت الجغرافيا تحتويه، حيث إنه لم يسبق لعربي أن مارس شعوبية ما، فهو أبوي النظرة والرعاية لكل من يتحدث لغته الخالدة كلغة أم، ويبدو أن الأحفاد اليوم يريدون التمرد على هذا الأُقْنُوم وتجاوزه إلى مبدأ المعاملة بالمثل، بحسبانها وطنيةً، وولاءً.
وعند الحديث عن الوطنية يجدر بنا التفريق بين مفهومين للوطنية، الأول: أن تحب وطنك وكل ما ينتمي لوطنك، وأن ترى أن من يحمل جنسية الوطن هو مواطن أصيل لا طارئ مهما كانت أصوله، ومهما كان زمن وصوله إلى أرض الوطن واستقراره فيه، وكذلك من يقيم في الوطن بصورة نظامية ولهدف تنموي معين وبشكل مؤقت هو مقيمٌ، لا يقل عن أخيه المواطن في شيء من الحقوق بحسب نظام الدولة وتشريعاتها، وأما المفهوم الآخر: فهو مفهوم دخيل ونشاز على ثقافتنا العربية الأصيلة، ومبادئ الدين الحنيف، وذلك حينما نعتقد أن الوطنية منصبة على التعصب، وكره الآخر، وزرع الأحقاد والضغائن، في نفوس العالم على بلدك ووطنك.
ولعل من فضائل جائحة كورونا، وقف أو تعطيل مد يميني متطرف، ومد شوفيني إقصائي، بدأ يطل برأسه عبر بعض السعوديين، في وسائل التواصل الاجتماعي، تأثرًا فيما يبدو بموجة عالمية بدأت تفت من عضد القارة العجوز -أوروبا- من أمد ليس بالقصير، ليثقلها أكثر مما هي مثقلة بالهموم والمشاكل، كما أنه فيما يبدو كذلك ردة فعل متعاظمة على زمان الصحوة الذي هدم كل شيء له علاقة بالوطنية في نفوس الناس المتأثرين بها، ويمكن أن نقول أيضًا إن مما ساهم في خروج هذا التوجه الشوفيني الجديد عن المسار، تلك الحملات المستعرة من تنظيم الحمدين، وتركيا إردوغان، وأذنابهما من الإخوانيين الطامعين في تولي كراسي حكم البلاد العربية، كل هذا الظروف ولَّدت مناخًا غير صحي انساق وراءه بعض المغردين، وتسرب جزء منه إلى بعض التجمعات والبيئات الاجتماعية والتربوية، خارج الفضاء الافتراضي.
ورغم أن الأمر بدأ يتشكل كظاهرة لافتة، إلا أنه ما زال جنينًا خديجًا، يمكن التعامل معه بشكل يحمي المجتمع السعودي من شره، ويقيه من فتنته، والواجب أن نَحذر، وأن نُحذر من أن ما يحدث على وسائل التواصل الاجتماعي اليوم، هو امتداد لموجة تطرف قد تنسينا كل تطرف سابق، ويجب إيقاف هذا النفس والتمدد لهذه الفكرة النكدة، حتى لا نجد أنفسنا مضطرين لملاحقة الحلول ومطاردتها.
ولا أكتم سرًا حينما أقول إنني في بداية الأمر كنت مرحبًا بوجه من الأوجه بهذا التوجه، بحكم أنه يعزز الوطنية ويعمقها، ويكسر تكلسات الصحوة في نفوس الناس، ولكن الأمر، بدأ بأخذ منحى خطير، ولو ترك وحده ربما تطور الأمر إلى أبعاد خطيرة جدًا على الأمدين المتوسط والطويل، ليس أقلها الانفلات الأمني.
وتعرف الشوفينية بأنها: «إفراط في الوطنية والمعتقد الديني والثقافي ينتهي إلى معاداة الدول والثقافات الأخرى»، والكلمة مشتقة من اسم الجندي الفرنسي «نيكولاس شوفان»، الذي كان معروفًا بحبه وولائه المفرطين لنابليون، وباتت هذه الكلمة تستخدم على نطاق أوسع؛ فتطلق على أي تحيّز لاعقلاني للجماعة التي ينتمي إليها الفرد، وتتخذ من تحقير الجماعات الأخرى مبدأ وقيمة، وعرّفها علماء النفس السياسيون بأنها «الوطنية المفرطة»، وهي آلية دفاعية يلجأ إليها الفرد المضطرب نفسيًا؛ لإقامة علاقات متكافئة مع الجماعة التي ينتمي إليها، ويحاول أن يُخفي عدم قدرته على التفاعل والاندماج مع غيرها من الجماعات، بذريعة أن العلاقات المتكافئة مع الجماعات الغريبة أمر مستحيل في الطبيعة.
وظهر أول مظاهر الشوفينية أواخر القرن التاسع عشر، حيث برزت قوميات كالاتحاد الإيطالي (كافور)، والاتحاد الألماني (بسمارك)، ومبدؤها التعالي على القوميات الأخرى، وبرزت الشوفينية الحديثة على يد موسوليني في إيطاليا (الفاشيون)، وهتلر في ألمانيا (النازيون)، وتنطلقان من فكرة أن شعبيهما أرقى وأسمى الشعوب، ولهما الحق في حُكم العالم.
والشوفينية مختلفة تمامًا عن الوطنية، فالشوفينية وطنية متحوّلة إلى تعصب ورفض للآخر، وهي انهيار أخلاقي وإنساني، ومغالاة تقلل من الآخر ومن ثقافته إلى حد إقصائه وتحقيره، على عكس الوطنية الحقة، التي تحمل أسمى معاني التضحية، والقيم السامية، والمحبة، واحترام الغير، فالوطنية مفهوم أخلاقي متسامٍ بالدرجة الأولى، والمواطنة أن يفتخر الإنسان بوطنه ومنجزاته، ويذود عنه بمهجته وروحه، بعيدًا عن مشاكسات قد تجلب الضرر والعار على وطنه.
أخيرًا، لا بد أن ندرك إدراكًا عميقًا أن الشوفينية تطرف نهايته الإرهاب، طال الزمن أو قصر.