منذ زمن بعيد وأنا أدعو إلى العناية بلغتنا وتعليمها وإصلاح مناهجها التي ساءت فنجم عن الإساءة ما يسيء، وعم اللحن وشاع حتى لكأن حملة أعلى الشهادات الجامعية لا يعرفون النحو والصرف، أما البلاغة فيجهلونها، ولهذا صرنا نقرأ في الصحف والكتب ونسمع من الإذاعة والتلفزيون كلاما ركيكا يضاف إليه اللحن الكثير، وأحضر صلاة الجمعة في بلدان العالم العربي فأسمع خطبة الجمعة، فإذا الخطيب يغلط كثيرا فإذا كان هؤلاء العلماء الكبار يلحنون فلا يلام التلامذة إذا لم يقيموا القراءة ويحسنوها، لأن معلميهم ضعاف ومنهم من لا يحسن التفرقة بين الاسم والفعل وبين الحرف والضمير، ويجعلون الإعراب جهلا مطبقا، ومنذ خمس عشرة سنة أو أكثر أثرت حملة على منهج تعليم العربية وأثبت عقمه ودعوت إلى إصلاحه والعناية بتعليم قواعد العربية فلم تجد الدعوة سميعا، وازداد ضعف الطلاب في لغتهم حتى لم نعد نسمع أو نقرأ غير الغالط الكريه، ومنهج تدريس النحو على الطريقة المتبعة بالبدء بالمثال حتى إذا انتهى من عشرات الأمثلة ساق القاعدة، واتبع هذا المنهج في مدارس العالم العربي منذ 40 سنة ومنذ اتباع هذا المنهج حتى اليوم وملايين الطلاب العرب جد ضعاف في العربية، لا يقيمون سطرا مما يقرأون مع أن بعض ما يقرأون مضبوط بالشكل.

وهذا المنهج على عيوبه الكثيرة يفترض في الطفل كمون النحو في نفسه وكأنه غريزة من غرائزه الكامنة فيه، كما يفترض فيه العلم بمصطلحاته قبل أن يسمعها. فالطفل في الثامنة أو التاسعة من عمره يبدأ في تعلم النحو، وهو خالي الذهن عن هذا العلم الجديد عليه وإذا هو يفاجأ بباب «الجملة المفيدة» ثم تقسيم الكلمة وهكذا، ولا يبدأ الكتاب بالقاعدة يعرفها ويحدد حدودها وإنما بالأمثلة التي تتضمن كثيرا من أبواب النحو، وطريقة السلف أقوم في تعليم النحو فهم يعرفون النحو ويذكرون فائدة تعليمه وأن القصد منه ديني قبل كل شيء لأنه يحرس كتاب الله من وقوع قارئه في اللحن، ومن العسير على الأطفال تصور المعاني المجردة إلا إذا كان معلمهم بارعا مقتدرا، وإلا نشأوا على الضعف وعجزوا عن القراءة السليمة وعن تطبيق الأمثلة على القواعد، وإن إعطاء الطفل كتيبة من الأمثلة في باب من أبواب النحو ليستخرج منها بمعونة المدرس أول ما يبدأ أمر شديد الصعوبة، فالطفل في هذه الأيام يواجه علم النحو وهو لم يختم القرآن كله ولم يجوّده ولم يستظهر منه سورا كثيرة ولا بعض الأجزاء ولا شيئا من الشعر أو الحديث، وما دام محروما من ذلك فإن من العسير أن يتمثل النحو ويهضمه، مع أن وسائل الإعلام الحديثة تساعده على استيعاب كثير من المعلومات وتزوده بثروة لغوية طيبة وتعينه على تنمية معلوماته المتجددة التي يستثمرها وعلى تنمية ذهنه أيضا، وإن إغفال منهج تعليم الطفل لقراءة القرآن كله وتحفيظه بعضه قد أفقده تعود البلاغة العالية حتى ساء تعبيره كتابا وخطابا، ولو عوّد المنهج الطفل قراءة القرآن كله واستظهار بعضه لتيسر له فهم كثير من علوم العربية التي أنشئت لدراسة القرآن وفهمه، أما أن يكون القرآن مادة من المواد التي يتعلمها ويكون النحو كذلك، فإن شأن القرآن يهبط إلى الدروس الأخرى لأنه بذلك يتساوى بغيره وستزاحمه تلك الدروس، وكان حريا بالمنهج أن يخصص سنتين لتعليم الطفل القرآن يتلقاه من عمله حرفا حرفا، وبذلك تخرج الحروف من مخارجها حتى أن أصعب الحروف كالضاد والذال والثاء والظاء تصدر من مخارجها واضحة سليمة ظاهرة.

وعندما يلقن المعلم تلميذه الطفل القرآن حرفا حرفا وكلمة كلمة يتعلم النطق الصحيح الفصيح ويتعود ملكة البلاغة العالية، كما تتعود أذنه سماع موسيقى القرآن الخاصة به دون كل كلام العرب، ويتعود الطفل منذ نعومة أظفاره أرقى أسلوب في العربية على الإطلاق، وتفرغ الطفل سنتين للقرآن الكريم يعاشره ليل نهار ستثمر هذه المعاشرة تربية ذوقه وتزكية ملكاته، وتترك في نفسه آثارا تعمق وتنتشر على مر الأيام، وحينئذ يكون في طوقه استعمال الكلمة الصحيحة استعمالا صحيحا وتركيب الكلمات في جمل، ومادة المحفوظات ومادة المطالعة ومادة الإنشاء كانت معوانا لفهم الطفل النحو، كما كانت تزوده بثروة من اللغة وتمكنه من إنشاء الجمل وتحيي فيه ملكاته وتنمي خياله.

واختلف المدرس والكتاب ومنهج تعليم العربية في هذه الأيام عما كان قبل 40 سنة في كل أقطار العروبة، فأنا كنت تلميذا بالابتدائية منذ 50 سنة بمكة المكرمة حرسها الله، وكان من يعلمنا النحو أحد أئمته في الحجاز هو «شيخ بابصيل»، وكان الكتاب الذي ندرسه في السنة الأولى الابتدائية هو الجزء الأول من كتاب الدروس النحوية تأليف حفني بك ناصف ومحمد بك دياب والشيخ مصطفى طموم ومحمد بك صالح، وكان أستاذنا المكي الحجازي شيخ بابصيل إماما جليلا في علوم العربية، وكان هو الذي يعلمنا الإنشاء والمحفوظات والمطالعة، ولم يفارقنا في سنوات الابتدائية الأربع حتى إذا تخرجنا من المدرسة الابتدائية إلى المعهد العلمي السعودي، كان شيخنا قد سبقنا إليه فصار يعلمنا الصرف والبلاغة حتى تخرجنا من المعهد العلمي السعودي، وخلال دراستنا بالمعهد أخذنا على شيخنا الجليل ألفية ابن مالك واستظهرناها ودرسنا عليه شرح ابن عقيل ثم حاشية الصبان على الأشموني، ولكن ما تلقيته من شيخنا في السنة الأولى الابتدائية ثبت في ذهني حتى هذا اليوم، ولي أولاد بالمرحلة الابتدائية والثانوية وهم وكل زملائهم ضعاف النحو، والكتاب ومنهج تأليفه وتدريسه عقيمان، ولهذا كان الطالب العربي ضعيفا أشد الضعف في كل علوم العربية فلما تخرجوا من الجامعات تخرجوا وهم ضعاف لا يحسنون العربية، وكثرت دعوات تبسيط النحو وتيسيره، ووضعوا للنحو المبسط الميسر منهجا ألفوا عليه الكتب فعالجوا الضعف بمضاعفته وما له علاج إلا العودة إلى منهج السلف وكتب السلف، ويجب أن يسير أبناؤنا على النهج الذي سرنا فيه حتى يكونوا مثلنا في علوم العربية حفظا وإدراكا وفهما.