المقال يباشر مشكلة ضعف حضور المثقفين والأدباء، وضعف تأثيرهم، وقلة متابعيهم، في وسائل التواصل، بالمقارنة مع فئات أخرى، نفترض أنها أدنى وعيا، وأقل معرفةً، وأحقّ بالظِلّ ممّا نالته من الأضواء.
في البدء، ينبغي توجيه الخطاب إلى المثقفين، الذين ما زالوا يرون في الكتاب الورقي وسيلة الإيصال المثالية، وإلى الأدباء الذين يرون أن النص الأدبي الصالح للنشر عبر هذه الوسيلة التقليدية، صالح للنشر عبر وسائل التواصل، دون أن تتغير سماته، ودون أنْ تُوجز فيه التجربة الشعورية وتُركّز، ودون أن تتقلص مساحته اللغوية، فأقول: أزعم أن اختلاف أداة التوصيل، يؤدي إلى تغيّرٍ في سمات المنتج الإبداعي الأدبي وطبيعته، ولا أشك في أن الوعي بحتمية هذا الاختلاف، يحتاج إلى وقتٍ حتى يستوعبه المبدعون، وحتى يدركوا أن النص الأدبي الذي يذهب إلى المتلقين عبر الوسائل الحديثة، يحتاج إلى تركيز التجربة، فالنفس الطويل لم يعد ميزة، فضلًا عن أن النصّ الأدبي الذي يُنشر عبر وسائل التّواصل، يحتاج إلى عتبات وموازيات سيميائية جديدة، وهي مختلفة عن العتبات التقليدية المتمثلة في: لوحة الغلاف وتصميمه، وخط العنوان، والرسوم الداخلية، والغلاف الأخير، وأعني بها المؤثرات البصرية والصوتية، بوصفها خوادم نصية، أو عتبات جديدة مباينة للعتبات المعروفة في المطبوع الورقي، وبوصفها استثمارًا للتقنية وتطويعًا لها، بما يضيف إلى النص عناصر جذب، ويمنحه إيحاءات تتجاوز الدلالات الهامشية، التي توحي بها ألفاظ النص وتراكيبة، وتجسّد أو تشخّص أو تحرّك ما يرسمه من صور فنية لغويّة، من خلال تحويلها إلى صور بالمفهوم العادي للصورة البصرية، وذلك يعدّد مجالات التأويل، ويحقق فكرة: «امتزاج الفنون».المطبوع الورقي، كان يذهب إلى فئة محدودة تريده وتطلبه وتتشوق إليه، فيما صار المنشور الرقمي يذهب إلى الفئات كلّها دون استثناء، إلا أن تقديره والاهتمام به ومعرفة قيمته تبقى محصورة في الفئة المحددة، تلك التي كانت تتشوق إلى المنتج المطبوع، وتبحث عنه، وتقتنيه، وهي فئة محدودة عدديا في الحياة الواقعية، وعليه؛ فإنها تمثل نسبةً قليلة جدًّا في الحياة الافتراضية، بل إنها لا تكاد تمثّل رقمًا في مجموع مستخدمي وسائل التواصل، وهذا ما يفسر وجود المثقفين في زاوية قصيّة معتمة، من زوايا هذه الوسائل التواصلية التقنية.
وبالبناء على أنّ جمهور الثقافة والأدب فئة محدودة ومحدّدة، إلا أن النرجسية تطغى على بعض المثقفين الذين يستخدمون وسائل التواصل، وهذا سبب من أسباب عزوف المستخدمين عن متابعتهم، وعن الاهتمام بما ينشرونه، فضلا عن أنهم يرسمون صورة نمطيّة مشوهة لفئة المثقفين، مما يؤدي إلى عزوف المتابعين عن المنتمين إلى فئتهم كلّهم، ولذا فإنّه يتحتّم على المثقف، الذي اختار التوجّه إلى وسائل التواصل الاجتماعي، أن يتخلص من نرجسيته، ومن شعوره بالانتماء إلى «نخبة»، وهذا يوجب عليه أن يكون متفاعلًا مع المستخدمين، دون فوقية أو انتقاءات أو استثناءات، وأن يكون ذا صدر رحب قابل للتعامل مع «خاصية التعليق» المفتوحة في هذه الوسائل الجديدة، عوضًا عمّا لحظتُه من بعض المثقفين الذي «يحظرون» بعض المعلّقين على نصوصهم، أو يسمونهم بالجهل، أو يصفون تعليقاتهم بالتفاهة أو السذاجة أو السطحية أو الغباء؛ لأنّ قارئ النصّ الرقمي مختلف عن قارئ النص الورقي، وشتان بين: من يذهب إلى النص قاصدًا قراءاته في ديوان أو مجموعة، ومن يأتيه النص صدفة في «تويتر»، أو «فيسبوك»، أو«يوتيوب»؛ فالأوّل قارئ يعي قيمة العمل الأدبي، ويفهم معنى كون النصوص الأدبية حمّالة أوجه، فيما الثاني قارئ مشدوه ومصدوم، بما يعجز عن فهمه، أو مغبون من عجزه عن إنتاج نص مشابه، أو عابث يتسلى بالاستفزاز، أو حزبي حركي مؤدلج يحاكم الأشخاص، ويعاديهم منطلقًا من الأدبيات العدوانية، التي غرسها في ذهنه منظِّرو جماعته وقادتها.
ومهما يكن من أمر، فإن النشر الورقي يبقى الضّامن الأقوى للخلود، ذلك أنّ المواقع الإلكترونية الثقافية وغيرها، تعاني من ظاهرة الاختفاء الفجائي، ومثلها اختفاء حسابات بعض المثقفين الكبار على «تويتر»، أو «فيسبوك»، أو «يوتيوب»، مما يتعذر معه الحصول على قاعدة بياناتها، أو ما نُشر عبرها، ولنا على ذلك أمثلة كثيرة، تتمثّل في كثير من المنتديات الثقافية، التي ذاعت شهرتها قبل أكثر من عشر سنوات، وكانت تجمع مثقفين عربا من الأقطار كلها، ثم اختفت فجأة، وكذلك اختفاء مواقع بعض المثقفين على الإنترنت، ولذا يبقى الكتاب الورقي، الوسيلة الأهم للحفظ والتوثيق، وعبور الأزمنة نحو الأجيال اللاحقة، وما الوسائل التقنية سوى أدوات مساعدة على النشر السريع، وطرق سهلة للوصول إلى المتلقي، إلا أنها لا تحقق الخلود.
من القضايا التي يتناولها الباحثون في الأدب الرقمي، ويؤكّدون على وجودها، قضية: «تلاشي النخبة وظهور الشعبي»، من خلال وسائل التواصل، وتلك نتيجة بدهية لإتاحة النشر«وفتح أبواب القول للمستخدمين التقنيين، دون استثناء أو إجازة أو رقابة، وذلك يفسر شهرة أشخاص لا يقدّمون أيّ محتوى معرفي، أو إبداعي أو إنساني، مما جعل هؤلاء - بوصفهم أفرادًا فقط - يتفوقون في الحضور والشهرة على المثقفين، وأرى أن على المثقفين استيعاب هذا الواقع، استيعابًا يحول بينهم والتأميل في أن تكون الوسائل التقنية التواصلية بديلة للكتاب الورقي، ولعل الوعي بهذا التحول من النخبوي إلى الشعبي، سبب من أسباب عزوف بعض المثقفين المعروفين عن وسائل التواصل.