المستشرقون الذين لا يريدون من الإسلام إلا أن يكون كما يريدون، هم أول من دعا في القرنين الأخيرين إلى إحياء الاعتزال، ناعتين إياه بالعقلانية، والثورة على الجمود دون أن يجرؤوا على تقديم دليل مستقيم على ما يقولون، وتلقف هذه الفكرة عنهم بعض الكُتَّاب المسلمين، ومن أبرزهم الكاتب المصري أحمد أمين في كتابيه «ضحى الإسلام» و «ظُهر الإسلام»، واللذين زعم فيهما -ولاسيما في الثاني منهما- أن حركة التطور العلمي قد خفتت بعد خفوت نجم المعتزلة، وأصبحت هذه المقولة من مُسَلَّمات الكُتَّاب المنهزمين أمام الحضارة الغربية، الذين وجدوا في الإسلام قبل ظهور البدع مشجبًا يعلقون عليه التخلف الحضاري عند المسلمين، الأمر الذي يلزم منه أن سبب التخلف هو الإسلام كما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وفهمه عنه أصحابه رضي الله عنهم، والإسلام الحضاري هو الإسلام كما فهمه المعتزلة !

وبلغ من افتتان الكثيرين من المثقفين بهذه الفكرة، حد أن جعلها الأستاذ أنور الجندي أحد عناصر المؤامرة على الإسلام، وذلك في كتابه «المؤامرة على الإسلام».

وفي ظل الهجوم على المنهج السلفي من مختلف الجبهات الدولية، والمذهبية، والسياسية، وأدعياء التنوير من الليبروإسلاميين والليبراليين، رجع إحياء هذه المقولة من قِبَل كُتَّاب ينتمون إلى خلفيات مذهبية اعتزالية، وإن تظاهروا بالعلمانية أو الليبرالية كرشيد الخيون، أو كُتَّاب لديهم صعوبات في فهم التدين، وعند بعضهم عداء للتدين، كالطيب التيزيني ونصر حامد أبو زيد ومحمد أركون، وحين تقرأ في كتابات هؤلاء، لا تجد لديهم أدلة حقيقية من الفكر المعتزلي وأدبيات علمائه على ما يَدَّعونه من تعظيم للمعتزلة، سوى النفخ في أقوال المستشرقين، ثم يتلقى كلامهم شباب افتتن بالمعاصرة وفِكر المعاصرة، أو لديهم موقف من التدين أو العلم الشرعي السائد، فينقلون أفكارهم دون أن يكون لهم أدنى دراية بحقيقة المعتزلة وما يدعون إليه.

فهل تعلم أيها القارئ:أن المعتزلة يُنكرون صفات الله تعالى، ويقولون: إن ما ذُكر في كتاب الله تعالى إنما هي أسماء وليست صفات، فهو تعالى عمَّا يقولون سميع بلا سمع بصير بلا بصر عالم بلا علم قدير بلا قدرة، وهكذا في بقية الصفات، يُعَبرون عن هذا المعنى بالعديد من العبارات، فمنهم من يقول: إن الصفات هي ذاته، فحين نصفه بـ«العليم» فنحن نقصد ذاته وليست صفة زائدة عن ذاته، لأننا -بزعمهم- إن قلنا: إنه سميع، وأن السمع صفة زائدة عن الذات فلا بد أن تكون قديمة، وإذا كانت قديمة فقد أثبتنا إلهًا آخر غير الله، فإذا أثبتنا الصفات فإن إثباتنا لها معناه تعدد القدماء، وهذا يعني تعدد الآلهة !

وكلامهم في هذا الأمر طويل ومعقد ومتناقض، ولا يثبت واحدهم على ما قرره الآخر، فأين العقل منه؟

وأين العقل من نفيهم أن يكون الله عاليًا على خلقه مستويًا على عرشه، وكأنه بتجرده من الصفات عَدَم، لأن العقل يقضي بأن من لا صفة له فهو معدوم.

ولك أن تقارنه بقول السلف: إن لله تعالى صفات وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم نؤمن بحقيقتها، ونثبتها كما أثبتها الله ورسوله، ونجهل كيفيتها؛ لأن الله لم يخبرنا عنها.

فالسلف عَرَفُوا العقل، وعَرفُوا أنه لا مجال له في عالم الغيب، لأن مجال العقل فيما يَملِك أدواتِ معرفته، وعَالَم الغيب لا سبيل إلى معرفته إلا بالخبر الإلهي، فاقتصروا في باب الصفات على إثبات ما أثبته الله لنفسه من غير تحريف ولا تعطيل ولا تأويل، وأما المعتزلة فلم يعرفوا حدود العقل لذلك ولَجُوا به في عالم الغيب، وجعلوا العقل في ذلك حاكِمًا على النصوص، والنصوص ثابتة والعقول متفاوتة، فاختلفوا في عباراتهم عن الصفات اختلافًا كبيرًا، لأنهم حَكَّمُوا المتفاوت المتغير في الثابت، وهذا مما لا يُقرُّه المنطق الذي يجعلونه وسيلة لضبط العقليات.

ثُمَّ إن ما زعموا أنه العقل في فهم الصفات، أبعدَ ما يكون عن العقل، فكيف يُقال: إن إثبات الصفات يفضي لتعدد الآلهة؟ وأننا إذا أثبتنا لله علمًا وسمعًا وقدرة نكون قد أثبتنا تعدد الآلهة! أين العقل من هذا، وهل إذا قلنا: إن زيدًا له سمع وبصر وحياة، فهل يعني ذلك أن لدينا أكثر من زيد؟ فزيد واحد وهو حي له سمع وبصر، ولله تعالى المثل الأعلى فصفاته عز وجل لا تعني تعدد ذاته، وهذا موافق ليسر الدين ويسر العقيدة، أما فهمهم فهو عبث بالعقل وليس تحكيمًا وإعلاء له.

وهل تعلم أن المعتزلة هم في التاريخ الإسلامي، أول من استخدم الاستبداد السياسي لفرض آرائهم العقدية على العلماء، وذلك في عصر المأمون والمعتصم والواثق، وهو ما يعرف في التاريخ الإسلامي بامتحان العلماء في مسألة خلق القرآن، فقد فُرض امتحان العلماء، أي سؤالهم عن رأيهم في القرآن، فمن قال: إنه كلام الله تعالى مُنَزَّل غير مخلوق سُجن ونُكل به، ومن قال: إن القرآن مخلوق نجا، وهي مسألة فرعٌ عن إنكار صفات الله تعالى التي يقول بها المعتزلة، ولا شك أن هذا منافٍ لدعوى العقل وتقديمه، فمن يُقدِّم العقل يمتنع أن يَحمل الناس عليه بقوة السلطان.

ومعلوم أن كثيرًا من الانحرافات العقدية نشأت في عهد بني أمية، ومع أن كبار خلفاء بني أمية كانوا يُصغون إلى نصائح علماء التابعين من الشام، إلا أننا لا نعلم أن علماء السلف هؤلاء، أشاروا بامتحان الناس في أي مسألة من مسائل العقيدة، كما فعل المعتزلة زمان دولتهم، وكذلك كما فعل الأشاعرة حين آلت الدولة لهم.

نعم أشار علماء السلف بمعاقبة من اشتغل على ترويج الانحراف العقدي بين الناس والدعوة إليه، وأطاعهم الخلفاء في غيلان الدمشقي والجعد بن درهم، بعد نصحهما وتحذيرهما وإقامة الحجة عليهما، لكنهم لم يمتحنوا أحدًا ويأتوا به من مأمنه ليسألوه عن رأيه في الصفات أو القدر، فمن أجاب بما يوافقهم أطلقوه، ومن أجاب بما يُخالفهم عاقبوه، بل لهم عبارات كثيرة في ذَمِّ امتحان الناس في عقائدهم، بعكس ما كان عليه الحال في عهد المعتزلة، الذين لم يكونوا ينهون الناس عن مخالفتهم أو يأمرونهم بالصمت، بل كانوا يأتون إلى الرجل الصامت فيسألونه فإن أجاب بما يخالفهم عاقبوه، حتى يرجع إلى قولهم.

وهل تعلم أن المعتزلة في باب القضاء والقدر عطَّلوا النصوص الشرعية، وعطلوا العقل أيضًا، فخسروا العقل والشرع معًا، وذلك بسبب جهلهم صفةَ العلم لله تعالى، الذي لا يحيط به أحد من خلقه، فهو عز وجل يعلم ما كان وما هو كائن ويعلم ما لم يكن، فعلم ما خَلْقُه صانعون إذا خلقهم، فَقَدَّره سبحانه عليهم وكتب ما قدَّر وقضاه فيهم، وجعل الدنيا دار اختبار وابتلاء وامتحان، فَمَكَّنَهُم من فعل الخير وتهييء أسبابه، ومكنهم من فعل الشر وتهييء أسبابه؛ وشاء سبحانه وأراد كل ذلك من خير وشر إرادةً سماها العلماء الإرادة الكونية، أي أنه عز وجل أرادها إمضاء لِحِكَمٍ عظيمة، منها الابتلاء الذي جعله الله لازمًا لابن آدم، وقَرَن الإخبار به بالإخبار بخلقه إياه حين قال: ﴿إِنّا خَلَقنَا الإِنسانَ مِن نُطفَةٍ أَمشاجٍ نَبتَليهِ فَجَعَلناهُ سَميعًا بَصيرًا﴾ [الإنسان: ٢]، فكان السياق موحيًا بأن الابتلاء وهو الاختبار غايةٌ للخلق، ولا يكون الاختبار إلا بخلق الخير وأسبابه والشر وأسبابه، فالله تعالى أراد الخير والشر من هذا الجانب، لكنه يرضى الخير ذاته من عباده ويستحقون عنده الثواب عليه، ولا يرضى الشر ذاته ولا يريده من عباده ويستحقون العقاب عليه.

هذا الفهم المُيَسَّر الموافق للنقل والعقل، لم تصل إليه عقول المعتزلة، فزعموا أن فعل العبد الشرَّ خارج عن إرادة الله ومشيئته، بل يقولون: إنه خارج عن خلقه، فيزعمون أن العبد يخلق فعل نفسه، وأن الله لا يُقدر فعل الشر ولا يقضيه، فهم أرادوا الخروج مما أشكل عليهم في عدل الله تعالى فوقعوا في الشرك، حيث أثبتوا للكون خالقين.

والذي أوقعهم في ذلك هو تشبيههم الخالق بالمخلوق، فمع أنهم ينفون التشبيه عن أنفسهم، وقد وقعوا في نفي صفات الله تعالى من أجل نفي التشبيه، إلا أن التشبيه هو ما أوقعهم في فتنة نفي القدر أو نفي القَدْرِ الأعظم في مراتب القَدَر، وبيان ذلك: أنهم لَمَّا رأوا المخلوق يمتنع عليه أن تكون له إرادتان ومشيئتان متعارضتان واردتان على مُراد واحد، توهموا أن الخالق كذلك، يمتنع عليه ما يمتنع على المخلوق، فكما يمتنع على الوالد أن يريد ابنه صالحًا وفاجرًا في الوقت نفسه، فكذلك يمتنع على الخالق أن يريد من العبد الخير ويكون أيضا مريدًا للشر في آن، وهذا ليس من تحكيم العقل عندهم، بل من ضعف العقل، إذ كيف يُقاس الخالق العظيم المتعال المدبر على المخلوق الضعيف، ثُمَّ في مذهبهم هذا عدم تفريق بين الإرادة التي تقتضي طلب الأمر ومحبته، فهذه لا تكون من الله عز وجل إلا للخير، وبين الإرادة التي بمعنى خلق الشيء وتهيئة أسبابه والابتلاء والاختبار به، فهذه تكون للخير والشر، ولا تكون إلا للخالق الحكيم العلي القدير المدبر.

كما أن مسائل القدر برمتها من مسائل الغيب التي ابتلى الله بها عباده، والأصل فيها التسليم، لأن عقل الإنسان لا يملك في مسائل الغيب غير التسليم، لكن المعتزلة أقحموا العقل فيها كما أقحموه في غيرها فلم يُوَفَّقوا للاستسلام لله تعالى، ولا لإصابة مقتضى العقل الصحيح.