بعد بيانات نزاهة عن الفاسدين، التي قبضت عليهم وأحالتهم إلى النيابة، بدأت أتساءل ويتساءل كثيرٌ من الناس حولي، حول العقلية التي أدت ببعض الفاسدين إلى أن يصلوا إلى تلك المراحل المتقدمة جداً من الفساد المالي.

الضابط صاحب الرتبة العالية، الذى وصلت مبالغه التي سطا عليها إلى حوالي الأربعمائة مليون ريال، ماذا يرغب بكل هذا المبلغ الضخم جدا؟ والآخر الذي خبأ أمواله المسروقة في خزانات حديدية أسفل صبة مجلسه، إذا كان سيخبئه، لماذا إذن يسرقه؟ ونماذج أخرى متعددة من الفاسدين سوف ينكشفون لاحقاً، قد يكونون أشد غرابة من هؤلاء الأشخاص.

ذهبت في البحث حول هذا الأمر، ووجدت من ضمن ما وجدته، أن هناك من كتب حول هذا الشأن سابقاً. ومن أجمل ما قرأته في هذا الباب، ما كتبه الباحثان جيرالد جرينبرج وروبرت بارون في كتابهما الضخم «إدارة السلوك في المنظمات».

يقولان فيه: إن سرقات العاملين في المنظمات مشكلة مكلفة جداً، فقد تصل نسبة فشل المشروعات العائدة أسبابها إلى السرقات - حتى وإن كانت سرقات متناهية الصغر - إلى ما بين 30% و50%

ولذلك فإن الباحثين حاولا الإجابة عن هذا السؤال الضخم، لماذا يسرق العاملون؟ وتوصلوا في إجابتهم إلى عدد من المناظير، التي يمكن لها أن تتحدث عن هذه المشكلة.

المنظور الأول: منظور الخبراء العاملين في أقسام إدارات الممتلكات، الذين يقولون إن العاملين يسرقون، لأنهم أُعطوا الفرصة لكي يسرقوا، ولذلك فإنهم يحاولون دائماً وضع الكاميرات والأنظمة، التي تخوف اللصوص من ارتكاب السرقة.

المنظور الثاني: منظور علماء الجريمة، الذين يقولون إن العاملين يسرقون بسبب الضغوط المالية والاجتماعية، التي تمارسها الحياة ضد هؤلاء السارقين.

المنظور الثالث: منظور علماء النفس، الذين يرون أن الموظف عندما يسرق، فهو لا يعتقد أنه يفعل شيئاً خاطئا، وهو يبرر دائماً مواقف السرقة، التي يقوم بها بأنها أعمال أخرى، يستحق أن يأخذ عليها هذه الأموال.

المنظور الرابع: منظور علماء السلوك التنظيمي، الذين فصّلوا في إجابتهم وذهبوا إلى حد أنهم قالوا إن هناك عوامل متعددة للفساد والسرقة، خصوصاً أن من يسرق غالباً، قد لا يُعطى الفرصة للسرقة، وكذلك لا توجد لديه ميول إجرامية، وأيضاً ليس به اختلالات نفسية، والعوامل هي:

«1» الدعم: أي التغاضي والمغفرة اللذان يقدمهما العاملون لبعض الموظفين الذين يأخذون ما ليس لهم حق فيه

«2» العناد: ومعناه أن يرفض الموظف معايير الجماعة، التي يعمل معها بأن يخالفها، ويبدأ بالتحدي وكسر تلك المعايير بأخذ ما لا يستحقه.

«3» الرغبة في تحقيق التعادل: يرى بعض الموظفين بأنه تمت معاملته بطريقة ظالمة أو سيئة، ولذلك فإنه يعوض ذلك الإحساس بالسرقة والفساد.

«4» الاستحسان: ومعنى ذلك أن بعض المديرين يغض الطرف عمن يأخذ شيئاً ليس له، وفي بعض الأحيان قد يوافق عليه بطريقة غير رسمية.

هذه العوامل الأربعة، يرى علماء السلوك التنظيمي أنها هي المحفزات الأساسية لفهم سرقات العاملين، وهي أسس الفساد التي قد يرتقي في سلالمها الموظف، حتى يصل إلى مراتب عالية جداً في هذا الأمر.

عزيزي المدير، افهم هذه المناظير والمداخل الأربعة، التي حاولت أن ألخصها لك، ولا تستهن بالأمور الصغيرة التي يرتكبها موظفوك، فالضابط صاحب الأربعمائة مليون، بالتأكيد لم يصل لهذه المبالغ مرة واحدة، بل هي مرات، ومرات، ومرات صغيرة، تراكمت حتى وصلت لهذا الأمر. وبالمناسبة، أعتقد أن كل فاسد، غالباً هو شخص سيئ الطباع مع موظفيه ومع الأشخاص المهنيين والجيدين في منظمته، لأن الأشخاص الأسوياء لا يرضون بالمواقف الرمادية، التي يحب أن يقف فيها الفاسد دائماً، فاحرص يا سيدي على ألا تقف في الأماكن الرمادية، وإن وقفت مجبراً، فاستعجل الخروج منها.