شاءت الأقدار أن أخرج بصُحبة عائلتي إلى أحد المتنزهات البرية الجميلة، ذات الرمال الذهبية الرائعة، والقريبة من مدينة بريدة، وما إن وطئت أقدامنا أرض المتنزه حتى هالنا ما رأيناه من أكوام المخلفات التي تركها بعض المتنزهين في أماكنهم، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء بضع دقائق في حفظها في أكياس، ووضعها في الحاويات التي كانت على مرمى حجر من أماكن نُزهتهم!

انبرى بعض أفراد عائلتي، وقد بدا عليهم التذمر مما يشاهدونه من أكوام النفايات، يُورد بعض النصوص الدينية التي تربط بين التدين من جهة، والنظافة والسلوك الحضاري من جهة أخرى، ويتعجب كيف يحدث مثل ذلك السلوك من أناس يدينون بدين يحث على التمظهر بكل سلوك إنساني جميل؟

لا يعدم المسلم العادي، فضلاً عن المتعلم، أن يجد كماً من النصوص، قطعية الثبوت قطعية الدلالة، والتي تربط بين التدين والسلوك الإيجابي تجاه المرافق العامة والخاصة، ومنها المحافظة على نظافة الشوارع والمتنزهات والحدائق، وتجد هذا المسلم، إذ لا يتوانى عن أداء نوافل الشعائر، فضلاً عن واجباتها، فإنه لا يجد أدنى حرج في أن يقصر بما يأمره به دينه تجاه السلوكيات الحضارية، فيترك قمامته في مكان تنزهه، ويغادر دورة المياه، دون أن يكلف نفسه عناء تنظيفها بعد استعماله لها، فلماذا تحدث مثل هذه التصرفات غير الحضارية، في مجتمع يدين أهله بدين يحض على النظافة التامة، وعلى رأسها ترك الأماكن نظيفة كما كانت حين وردوها، حضه على أداء القربات والطاعات؟

ربما يجد بعضنا أن وسيلة مكافحة تلك السلوكيات السلبية إنما تتم بالوعظ، فيبدأ يعظ الأقربين منه، ويحض غيره على أداء واجب النصيحة تجاه التقصير في حين هم مأمورون به من سلوك إيجابي، وربما لا نعدم من يلقي المحاضرات هنا وهناك عن أهمية النظافة، فإن الحال تبقى مستمرة في الاتجاه السلبي.

لماذا لا تدفع المواعظ والنصح نحو الاتجاه الإيجابي؟

ينبغي أن نتحدث عن مفهوم «النسق الثقافي أو الاجتماعي»، الحاكم على تصرفات الأمم والشعوب، حيث تكون قيمُه متغلغلة في (لا وعي) المجتمع، فتصير سلوك أفراده: إقبالاً أو إدباراً، يتم بتلقائية تنساب دون أن يكون الفرد بحاجة إلى من يذكره بها.

من هنا، نقول إن السلوكيات، وأنماط التدين لا يبقى منها إلا ما دخل في (اللا وعي) فأصبح نسقاً اجتماعياً يمارسه الفرد بتلقائية تنساب من اللا وعي. ينبغي أن نتذكر في هذا الصدد قانون ابن خلدون في العصبية، ومنه عبارته الشهيرة التي ذكرها في (المقدمة): «الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم». فإذا كان ذلك في شأن الدعوة الدينية، فكيف يكون الأمر في من دونها؟

ما دور العصبية الخلدونية في موضوعنا؟

إنها تعبر عن الإرادة العامة لجعل موضوع ما قيمة أساسية من قيم المجتمع، فتكون في البداية رأياً عاماً يتردد في كل المحافل، وتحشد له كل ما تملك من دعم وإمكانيات، ومع الطرق المستمر على الوعي بأن يستلهم هذه القيمة، ومع استمرار العصبية في ضغطها، تدخل القيمة المبتغاة رويداً رويداً في (اللا وعي) لتصبح سلوكاً تلقائياً يمارسه الجميع. يقول عالم الاجتماع العراقي الراحل، د. علي الوردي: «يكاد يكون الوعظ ذا ضرر بليغ في تكوين الشخصية البشرية، إذا كان ينشد أهدافاً معاكسة للقيم الاجتماعية». ويمثل الوردي لذلك بإنسان ذهب إلى المسجد، وأخذ يسمع وعظاً أفلاطونياً يحضه على ترك الدنيا، بما فيها من ثروة وجاه، على الرغم من أن القيم المعاشة في مجتمعه تمجد الثروة والجاه والمنصب. هنا لن يكون للوعظ أثر ملموس، لأنه يحضه على الزهد في قيم يمجدها النسق المعاش.

لكي نخلق جيلاً نظيفاً وذا سلوك حضاري إيجابي تجاه المرافق العامة والخاصة، فينبغي ألا نكتفي بالمواعظ والنصائح، من قبيل التذكير بأن «النظافة من الإيمان»، بل يجب أن ندخل هذا السلوك في اللا وعي ليكون قيمة معاشة، تمارس بتلقائية. أما مجرد الوعظ والإرشاد، دون أن تكون القيمة، أو القيم معاشة على نحو تلقائي، فلن يترك أثراً يُذكر، هذا إن لم يخلق ازدواجاً في الشخصية.

لا شك في أن القانون الصارم له دور كبير في مكافحة مثل تلك السلبيات، لكن القانون وحده، يجعل محاولات التفلت منه قائمة دائماً، طالما غفلت عين الرقيب. ولذا ينبغي أن تكون القيم الإيجابية معاشة على نحو (لا وعيي)، مع وجود قانون يردع المتجاوزين.