قبل فترة قريبة، تساءل أحد المعرفات الأدبية في تويتر، عن شخصية الطبيب الذي سكن ذاكرتك كقارئ بعد إحدى الروايات التي قرأتها؟

العديد من الأشخاص أجابوا وتفاعلوا مع تلك التغريدة، وتحدثوا حول أهم الشخصيات الروائية التي تجسدت في عوالم الطب. وكانت إجاباتهم ماتعة وجميلة، ومحيلة في نفس الوقت إلى روايات رائعة لم يسعف الوقت بقراءتها، وهذا أحد الجوانب المشرقة لتويتر.

الحقيقة، أنني أول ما شاهدت التغريدة، لم يتبادر لذهني سوى شخصية الدكتور صبحي المحملجي، الذي صنعه عبدالرحمن منيف في روايته الملحمية «مدن الملح». قرأت تلك الرواية الضخمة منذ فترة بعيدة، وبعد دخولنا في فترة الحجر الماضي، أعدت قراءتها ثانية.


عشر سنوات مرت ما بين القراءتين. في قراءتي الثانية استمتعت جداً بهذه الشخصية وبدورها المحوري في الرواية، وذلك لأن نواحي الإدراك، وأطر المعرفة بداخلي اتسعت، لتراكم الخبرات العلمية والعملية، وكذلك لممارسة النشاط الاجتماعي الموسع، في فترة من فترات حياتي الماضية. قراءتان مختلفتان تماماً.

في قراءتي الثانية، شدتني شخصية هذا الدكتور بشكل غير طبيعي. تقول الرواية إن هذا الدكتور المشكوك في أصالته الطبية، جاء من نابلس اللبنانية في فترات تأسيس بعض دول الخليج العربي، وذهب مباشرة إلى إحدى المناطق الجديدة، المكتشف فيها حديثاً سائل النفط الخام، والذي بناءً عليه، بدأت تتشكل حوله مدن ومناطق جديدة وحديثة، يوجّه الأمريكان فيها المشهد الصناعي، نتيجة لمعرفتهم بهذه الصناعة الجديدة والمكتشفة حديثاً.

المهم أن هذا الطبيب البسيط، جاء ومعه مساعده العبقري، الذي استطاع أن يقدم سيّده بأفضل صورة ممكنة في عيون السكان المحليين. ولأن المنطقة حديثة البنيان، وأهلها أقرب عهدا بالبداوة والأمية، ولأن هذا الطبيب يعرف كيف يغيب، ويعرف متى يحضر، فإنه وبمساعدة المساعد الذي جعله أقرب ما يكون لأسطورة، حيث يملك هذا المساعد من المهارة والإقناع، ما يستطيع أن يبرر كل خطأ يقع فيه سيده بمبررات معقولة ومنطقية، بل وبعض الأحيان بصورة أقرب إلى الملائكية. هذه الأوضاع، جعلت الطبيب يجد طريقه لمجلس الحاكم الإداري للمنطقة بكل سهولة ويسر. ومع التواصل الدائم للطبيب بالحاكم استطاع أن يثبت نفسه كشخصية مهمة، بتقديمه لخدمات خاصة جداً لذلك المسؤول.

ولأن المنطقة مهمة جداً، فإن نائب السلطان رغب أن يزور المنطقة، ويطلع عليها وعلى سكانها وأحوالها. هذه الزيارة، جاءت كطبق من ذهب للطبيب، الذي يرى في نفسه أنه فلتة من فلتات الزمان، وأن حظه العاثر الذي قاده لهذه المجاهيل من الأرض، يجب أن يتحول ليكون خطه الذهبي، الذي سيوصله في النهاية إلى أن يخلّد اسمه في دواوين التاريخ، وعباقرته، وأحد مبدعيه. لذا فإنه لم يتوان في أن يستأثر بأن يكون فتنة الحفل وسيّده، حيث ألقى كلمة الأهالي، وقدم هدية خارجة عن المألوف لنائب السلطان، وبهذين الأمرين لفت أنظاره إليه، وليأخذه في فترة لاحقة من ضمن أقرب مستشاريه بعدما أصبح سلطاناً على البلاد.

هذا الطبيب يتميز بذكائه الشديد جداً، ولذلك فإننا نجده يترقى في المناصب حتى يصبح المستشار الأول للبلاد، بحيث أصبح يحال إليه كثير من الملفات السياسية والاقتصادية. كما أنه أصبح يعيّن شخصيات محورية في أماكن أساسية ومناصب مهمة جداً. ولأن السياسة متغيرة، فإن الحياة تتقلب بهذا الطبيب بين صعود وهبوط، ثم تتحول مجريات الرواية إلى أحداث خارجة عن السيطرة، فينتهي به المطاف مجنوناُ لا عقل به.

من أهم الأفكار في هذه الرواية التي يرويها الكاتب على لسان الطبيب، ما تحدث به عن فلسفة المراكز الأربعة، أو نظرية المربع. حيث يرى بأن القوى الأساسية المهيمنة على الإنسان هي أربع قوى. يقول: إنها مزيج معقد من الأشكال والقوى الداخلية بالإنسان، وبمعنى آخر، فإنه يعتبر الإنسان قوة مسيّرة، وأن ما يسيرها بوعي أو دون وعي، هو تلك المراكز الأربعة، التي تبدأ من الأعلى، وتنزل حتى تصل إلى منتصف جسم الإنسان.

المركز الأول: العقل، أو المركز الأعلى، ويعتبر أساس المعرفة وطريق الوصول، وهو الذي يحدد ويوجّه الإنسان، باتفاقه ومشاركته مع المراكز الأخرى.

المركز الثاني: القلب، وهو وجدان الإنسان ونقطة استقطابه، وفيه تصب المراكز الأخرى، ومنه تنتقل فيما بينها، وهو منبع الإيمان والاقتناع، ولا يمكن للإنسان أن يصل إلى نتيجة دون أن يكون هذا المركز في أقصى حالات القوة والنشاط.

المركز الثالث: المعدة، وهو مركز خطير، ويجب ألا يترك له الخيار، وألا تترك له حرية الحركة، إلا بمقدار ما يسمح به مركز القلب. وأن إهماله قد يسبب خطراً على الإنسان والمجتمع، كما أن هذا المركز عندما يضعف، فإن المراكز الأخرى ترتخي بشكل واضح.

المركز الرابع: الطاقة الجنسية، وهذا من أهم المراكز التي اكتشفها هذا الطبيب في هذه الرواية، ولذلك كان تخصصه الطبي في هذا المجال، وفي أمراضه وعلاجاته.

في الرواية، تلاعب هذا الطبيب بالناس، وضرب بعضهم ببعض، ومن أجل حبه العظيم لنفسه، فإنه حاول أن يلبس ثوباً ليس ثوبه.

كل هذه التقلبات في هذه الشخصية العجيبة، جعلت منه شخصية مدهشة بحق، وإن سماه الكاتب في الرواية بالحكيم، فإنه بعض الأحيان أقرب ما يكون للغباء منه إلى الحكمة، إلّا أنه في كثير من حواراته التي يتحدث بها، تجده عميقاً ومؤثراً وجميلا.