أتت تلك المريضة إلى طبيبها وهي تُعاني الأمرين من مُتلازمة القولون العصبي «IBS» منذ سنوات، والتي أدت بها إلى تبني سلوك غذائي غير مُلائم بهدف تجنب استثارة غضب هذا القولون، والذي يُستثار عادة من خلال سلوك نمط حياة غير صحي، ويتطلب وقتا يقصر أو يطول، ليهدأ غضبه، وما أن يعود إلى حالته الطبيعية حتى تأتي هجمة أخرى «بنمط سلوك حياتي» ليثور من جديد بأعراض غير مُريحة ومُزعجة جدا، تؤثر في جودة الحياة نهاية الأمر، والتي بدورها تُصبح مُساهمة ومُحافظة على هذه المُتلازمة المرضية، وهذه حياة من يُعاني مُتلازمة القولون العصبي. في النهاية هو اضطراب وظيفي مُزمن، وهذا يُفسر سر العلاقة ما بين الجهاز العصبي والجهاز الهضمي بمجموعة ما يُعرف باضطرابات الجهاز الهضمي الوظيفي، كان لدى تلك المريضة نقص في الهيموجلوبين الناجم ربما عن سوء التغذية لتجنب ثورة القولون. أخبر مُرافق المريضة طبيبها أنها تُعاني من قلق الصحة «Health Anxiety» وهو مشكلة بحد ذاته وصديق حميم للقولون، ثم سكت تاركا للطبيب «الحصيف» التقاط الخبر ومن ثم التعاطي مع المريضة وفقا لهذه المعلومة الهامة والتي من المُفترض أن تغير شكل جميع أسئلة الطبيب، ليصل لما يُريد «بمراوغة مهنية» من دون استثارة قلق المريضة على صحتها، وهنا مهارة مبنية على معلومة علمية. لم يأبه الطبيب بما قال المُرافق وكانت جل أسئلته تدور حول أورام القولون من التاريخ العائلي، إلى أسئلة تُوحي بشكل انطباعي مُؤكد بوجود ورم، رغم عدم وجود عوارض، بحلق ذلك الطبيب عينيه هنا وهناك، ثم أعطى رسالة للمريضة لا تقبل الشك أن هناك خللا جسيما يتطلب إجراء أشعة مقطعية للجهاز الهضمي وعمل مناظير للجهاز الهضمي العلوي والسفلي، والهدف هو البحث عن ذلك الورم بحجة نقص بروتين الهيموجلوبين، وخرجت المريضة بحالة نفسية وصحية سيئة، والعجيب أن ذلك الطبيب لم يتحدث بكلمة فيها أمل أو إعطاء جرعة تطمين وإنما طبيب كجهاز مادي لا يملك أدنى مشاعر، لا نقول عليه أن يُفرط في التطمين وإنما عليه أن يُطبق ما تعلمه في مُقررات العلوم السلوكية في مناهج كليات الطب، ولكن يبدو أن معظم كلياتنا الطبية ما زالت غارقة في تعليم طبي «قديم» والذي يعد «طبيب مادي-وسيلي» يُعالج مرضا وليس «طبيب إنسان» يُعالج مريضا، والفرق بينهما كالفرق بين الثرى والثريا. انفرد المُرافق بالطبيب لعله يجد تفسيرا آخر مُريحا، ولكنه أصر على هذا الانطباع السريري وهو وجود ورم، ثم أردف بعبارة أشد قلقا، فقال لو كانت النتائج سلبية، فسوف تُحال المريضة لطبيب دم، لبداية مسيرة قلق من نوع آخر، العجيب أنه طلب إجراء تحليل طبي جديد في آخر لحظة يتعارض مع انطباعه السريري، يتبع هذا الطبيب ما يُعرف بالطب المادي الوسيلي «Instrumental Medicine» وهو الطب المُعتمد على الأجهزة والوسائل الطبية، وليس الطب المُبنى على الحس والاستنتاج السريري «Clinical Sense and Reasoning».

ظهرت نتائج الأشعة المقطعية سليمة، وفي ظل عدم وجود أعراض مرضية البتة ذات الصلة بأورام الجهاز الهضمي، أصرت المريضة على عدم الاستمرار في عمل المناظير وطلبت تغيير طبيبها مُباشرة، للعلم فهذه القصة أحداثها في قطاع طبي خاص، وهنا حكاية أخرى يفهمها الجميع لا شك.

تذكرت ذلك الطبيب والمُمارس العام «GP» الإنجليزي عندما أتاه زميل لي كان يُعاني صداعا مُستمرا ومُزعجا، وطلب من طبيبه تحويله لطلب أشعة مقطعية أو تصوير مغناطيسي للدماغ والذي رفض بشدة وغرابة وقال: لو أن كل شخص يُعاني صداعا مثلك يُطلب ما طلبت، فسيكون أكثر من نصف الشعب البريطاني في هذا اللحظة بطابور على أقسام الأشعة، وأردف وأكد أن هناك «حسا واستنتاجا سريريا» تعلمه الطبيب خلال مسيرته كمعرفة طبية رصينة ومُمارسة مهارية مُؤصلة علميا، والجميع معرفة في رأس الطبيب، تُترجم لمُمارسة مهارية والمُغلفة بإنسانية الطبيب وقدرته على التواصل والتعاطي والحوار الفعال مع مريضه واتجاهاته نحو مرضاه، وليس مٌجرد طبيب «وسيلي» اعتماده على الوسيلة الطبية أيا كانت وتغيب الحس والاستنتاج السريري، وهنا الفرق في إعداد الأطباء ما بين طبيب وسيلي، اعتماده على الوسيلة وطبيب آخر اعتماده على المعرفة والمهارة الطبية المُكتسبة من مناهج كليات الطب، أو ما بعدها من التخصص العام والدقيق، أضف لذلك ما تتركه المُمارسة «الوسيلية» من آثار سيئة على المريض والطبيب نفسه والاقتصاد والهدر المادي الصحي والزحام على الوسائل الطبية إلخ. لم يسكت ذلك الطبيب الإنجليزي بل أضاف: هل تعلمون أنني سوف أكون تحت المساءلة عنما أحيل العديد من المرضى لطلب إجراءات طبية وسيلية وتظهر النتائج سلبية في العادة، سوف أُشخص من القنوات الرقابية «بمتلازمة فقر المعلومة الطبية والممارسة الصحية الآمنة»، وكعلاج لهذه المتلازمة المرضية، سوف يُطلب مني العودة للتعليم والتدريب ثانية.

أختم المقال برسالة لكل طبيب، لا تكن «طبيبا وسيليا» تُغيب المعرفة الطبية التي اكتسبتها خلال مسيرتك الأكاديمية والتدريبية والتي تشكل الحس والاستنتاج السريري لديك والذي تعتمد عليه بداية قبل طلب الوسيلة أو تفتقر لها، ورسالة لكليات الطب ومُعدي البرامج التدريبية التخصصية في السعي للتركيز على بناء الحس والاستنتاج السريري، والتركيز على مُمارسة مُتمركزة حول المريض، سوف أتناول هذه القضية بالتفصيل في المقال القادم بعون الله.