هكذا كان لطه حسين سمت الوزير حتى قبل أن يصبح وزيرا، لذلك عندما عاد الوفد إلى الحكم في 4 فبراير 1942، عينه نجيب الهلالي باشا وزير المعارف المستنير «مستشارا فنيا» للوزارة، كان طه حسين هو الوزير الحقيقي، رغم أن نجيب الهلالي كان من أقوى من عرفت مصر من الوزراء ومن أساطين القانون في بلادنا.
هكذا كان التفاهم تاما بين الوزير ومستشاره في شؤون التعليم أكثر من عامين كانا من أخطر الأعوام في تاريخ التعليم في مصر، إلى أن طرد الوفد من الحكم وطرد طه حسين من الوزارة في 16 أكتوبر 1944 حين أحيل إلى المعاش. ففي هذه الفترة الخطيرة أنشأ طه حسين جامعة الإسكندرية وقد انتدب مديرا لها في أكتوبر 1942، وما زال يرسي أسسها وينظم دراساتها ويبني كوادرها ويضع تقاليدها حتى استوت بفضله جامعة من أرسخ جامعات البلاد. وقد كان بناء الجامعات هو حبه الأول حتى في الثلاثينات، فقد كنا نسمع في الثلاثينات أن طه حسين كان منذ أن أعاده نجيب الهلالي إلى الجامعة في ديسمبر 1934، وراء تحويل المدارس العليا (مدارس المهندسخانة والزراعة العليا والتجارة العليا والطب البيطري) إلى كليات جامعية، وإدماجها في جامعة القاهرة (الجامعة المصرية يومئذ) وقد كانت من قبل لا تضم إلا كليات الآداب والحقوق والعلوم والطب، فاستحدثت أخطر ثورة عرفتها مصر في فلسفة التعليم العالي، وفجر أكبر لغم نسف به رجعية التعليم التي ما فتئت تعيث فيه فسادا وتكبله كما وكيفا بألف قيد وقيد، منذ أن مضى دنلوب ذوي الهيلمان وترك وراءه مدرسة كاملة العدة «لإصلاح» التعليم في مصر، فما نجحوا إلا في تخريبه وربطه كما وكيفا باحتياجات الرجعية المصرية التي كان يسوؤها أن يتعلم أبناء الشعب العلم العالي، وأن يتعلم المواطنون كيف يفكرون تفكيرا مستقلا من خلال مناخ الجامعة وتحرر مناهجها وبرامجها ومن خلال مناهج التعليم الثانوي، ذات الطابع الإنساني. وقد كانت ولاية طه حسين على وزارة المعارف أثناء سنوات الحرب العالمية الثانية من خلال منصبه كمستشار خطير له سمت الوزراء، وما استحدثه في هيكل التعليم العالي من تغييرات جذرية هي التي أخرجت إلى السطح ذلك الصراع الدفين بين ديمقراطية التعليم ورأسمالية التعليم، وهو صراع سياسي في حقيقته، وقد كان من قبل يرتدي أقنعة تربوية شفافة تتطاحن من ورائها المصالح الطبقية والصراعات الاقتصادية على المستوى الاجتماعي.
وقد كانت الثلاثينات هي الفترة التي بزغ فيها نجم إسماعيل القباني الذي سطع في الأربعينات منذ أن خلف القباني طه حسين بعد إقصائه من وزارة المعارف، فحاول أن يقلب سياسة طه حسين التعليمية رأسا على عقب ما استطاع إلى ذلك سبيلا. فإن أردت أن تعرف الفرق بين مدرسة طه حسين في التعليم ومدرسة القباني في التربية في كلمتين، فهذا الفرق باختصار هو أن طه حسين كان يريد أن يجعل من المدارس العليا جامعات ومن التعليم الثانوي طريقا إلى الجامعات، أما القباني فكان يريد أن يجعل من الجامعات مدارس عليا ومن التعليم الابتدائي طريقا إلى التعليم الفني المتوسط المكتفي بذاته الذي لا يتجاوزه إلا الممتازون بالعلم أو بالمال. أو قل إن طه حسين كان يريد لأبناء الشعب أولا وقبل كل شيء أن يكنوا مواطنين مثقفين يفكرون لأنفسهم ويريدون لأنفسهم ولا يساسون كالأنعام التي لا تدري من أمر وطنها أو من مصلحتها الحقيقية شيئا، أما إسماعيل القباني فكان يريد لأبناء الشعب أولا وقبل كل شيء أن يكونوا أسطوات مهرة يخدمون الإنتاج وليس لهم أن يتفلسفون أو يفكرون في نظم الحكم أو في حقوق المواطنة وواجباتها على مستوى الفرد أو الطبقة أو المجتمع أو الوطن، ما دامت لهم قيادة قوية مستنيرة تفكر نيابة عنهم.
ومن أجل هذا توسع طه حسين في التعليم «النظري» عسى أن ينظر الناس أمورهم وأمور مجتمعهم وأمور وطنهم، ومن أجل هذا توسع القباني في التعليم «العملي» ليعمل الناس تاركين أمورهم وأمور مجتمعهم وأمور وطنهم للصفوة.
وهكذا طرد طه حسين من منصبه كمستشار فني لوزارة المعارف في 16 أكتوبر من عام 1944، إلى أن عاد الوفد إلى الحكم بعد انتخابات ديسمبر 1949 وعين طه حسين وزيرا للمعارف في 13 يناير 1950.
وفي هذه السنوات الخمس التي أقصي فيها طه حسين عن السلطة من 1945 إلى 1950 أو على الأصح خلال عامي 1946 و1947 أشرف على دار الكاتب المصري التي عينته مستشارا لها ومشرفا على مطبوعاتها ورئيسا لتحرير مجلتها «الكاتب المصري».
ومن خلال مجلة الكاتب المصري، قرأ القارئ العربي لأول مرة لكافكا وسارتر والبير كامو وعنهم واتصل بتيارات الفكر الأوروبي، بعد الحرب العالمية الثانية. وكنا يومئذ، سهير القلماوي وعبدالرحمن بدوي وأنا، كتابا أكاديميين محدودي الشهرة، فقدمتنا مجلة «الكاتب المصري» أو على الأصح قدمنا أستاذنا طه حسين.. إلى جمهور المثقفين بالمعنى الواسع حين جاورت أسماؤنا اسمه واسم محمد عوض محمد واسم محمد رفعت ومحمود عزمي وسليمان حزين وغيرهم من الأساطين.