ظهرت أصوات في الفترة الأخيرة تنادي بعودة المعتزلة، وأصوات ترفض ذلك، ومن ينادي بعودتها يرى أن الخلاص مما نحن فيه من مأزق فكري لا يكون إلا بالخلاص من التبعية للماضي سواء في المذهب السني أو الشيعي ـ وهذا في حال الإبقاء على مرجعية الدين ـ فهم يرون أننا إذا أردنا اعتماد الدين فلا بد أن يكون مع إحياء فكر المعتزلة، ومن يرفض المعتزلة يرى أنهم «متسلطون يحاربون الرأي الآخر ولهم ضلالات عقدية ويشرّعون بالعقل». وفي حقيقة الأمر أن من ينادي بعودتهم لا يدور في خلده تلك الضلالات لا إثباتا لها ولا نشرا لها بل وربما لا يعرفها، وقد يكون ممن يحاربها إذا عرفها فلا يعنيهم البحث في الصفات الإلهية ولا خلق القرآن ولا خلق الأفعال ولا تكفير صاحب المعصية ولا غيرها، وإنما ما يريدونه هو إحياء العقل كمنهج عام في المجتمع والدولة ويرون أن المعتزلة رمز له لا غير.

وأما العقل الذي تنادي به تلك الأصوات فهو مختلف لأنهم مشارب في ذلك فبعضهم معتدل وبعضهم مغالٍ، لكن ما يمكن قوله إنه ما من مذهب شيعي أو سني سلفيا كان أو صوفيا أو أشعريا أو غيره إلا ويأخذ بالعقل في إثبات أصوله أو منهجه فكيف يرفضه؟ إذ إن رفضه سيؤدي لرفض المذهب نفسه، بل وحتى تقديم العقل على رواية منسوبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام هو تقديم عقل على عقل صحّح الحديث، لأن تصحيح الروايات تم من خلال علم مصطلح الحديث وهو علم عقلي وضعه البشر وليس غيبيا نزلت به الملائكة، وحتى القول بأن الأمة تلقته بالقبول وبالتالي هو صحيح هو حكم عقلي أيضا، فهي إذاً عقول تتضارب فيما بينها وكلها نسبية ونختلف حولها كما نختلف على العقل، ومن يطالب بإدخال العقل فإنه يقصد العقل المنبثق من معانٍ إنسانية وهو أولى بلا شك من العقل الحسابي أو الآلي الموجود في علم مصطلح الحديث أو أصول الفقه، فلا معنى للقول برفض تقديم العقل على النقل بهذا الإطلاق إذ إن هناك قطعيات في القرآن لا يمكن تقديم العقل عليها، وبالنسبة للروايات فالأفضل معها عدم ردها وإنما فهمها في ظل واقعها واستخلاص معنى نعمل به وتُستثنى بعض صور العبادات.

وأما فرض المعتزلة لرأيهم وتسلطهم ـ وأنا هنا لا أدافع عنهم فقد يرتكبون الجرائم ـ فيردّه أن الإمامين البخاري ومسلم ـ رحمهما الله ـ عاشا فترات من حياتهما في عصر العقل الذي يسمى فترة المعتزلة، وبه بدأت المذاهب الأربعة في الظهور، وهو صدر الخلافة العباسية إذ لم يكن هناك مذهب منافس لهم في تلك الفترة، وقلت عصر العقل لأن المعتزلة أتوا تبعا له لا العكس، حيث سادت كثير من العلوم وعلى رأسها الترجمة في ذلك العصر. والحرية تقاس بحجم النتاج الفكري وليس بعلاقة الدولة مع شخص أو أشخاص.