تزدان مدينة العلا بالقمة الخليجية رقم 41 التي تعقد اليوم في ظروف بالغة الأهمية وتوقيت دقيق من تاريخ دول مجلس التعاون الخليجي ومنعطف رئيسي تمر به المنطقة؛ نتيجة لجملة من التحديات التي تواجهها. جاء القادة الخليجيون - كعادتهم - بقلوب مفتوحة وصدور عامرة بالحب، كيف لا وهم يجتمعون في ضيافة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - الذين يجمعهم اتفاق تام على احترام وجهات نظره، وتقدير رؤاه المشبعة بالحكمة، والاهتمام بما يبديه من ملاحظات ونصائح سديدة ضخمتها تجارب السنين الطوال.

وتحمل المملكة العربية السعودية على عاتقها، منذ توحيدها على يد المؤسس المغفور له بإذن الله الملك عبدالعزيز آل سعود، الاهتمام بمصالح الدول الخليجية، والسعي الحثيث الصادق نحو كل ما يعزّز وحدتها ومكانتها ويؤدي إلى خير شعوبها، انطلاقا من مكانتها المتميّزة ككبيرة البيت العربي والخليجي، والشقيقة الكبرى التي ينظر لها العالم كله على أنها رمانة الميزان ومركز الثقل ومطبخ القرار السياسي.

حتى إذا رجعنا بالذاكرة إلى الوراء سنجد أن إنشاء مجلس التعاون الخليجي كان في الأساس فكرة سعودية عقب قيام نظام الملالي أواخر تسعينيات القرن الماضي، حيث فطنت الدول الخليجية منذ وقت مبكر لحقيقة هذا النظام، وأدركت المطامع الكثيرة التي يتصف بها، والنظرة الشريرة التي ينظر بها إليها، حيث لا يراها إلا دولا غنية بالنفط والثروات، متوهما أن بإمكانه التهامها والسيطرة عليها.

وإدراكا للخطر الكبير الذي يواجه الجميع، كانت مبادرة السعودية بإنشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربي وتكوين مؤسسات عسكرية وأمنية ومدنية تخدم مواطنيه، على أن يكون نواة تمهّد لاستكمال الحلم الخليجي بالانتقال من مرحلة التنسيق إلى مرحلة الوحدة والاتحاد بين الدول الأعضاء، وفق ما نادت به رؤية الملك سلمان في عام 2015.

وترتكز السياسة السعودية تجاه الخليج على أسس راسخة ومبادئ ثابتة، في مقدمتها أن أمن واستقرار منطقة الخليج هو كل لا يتجزأ، لذلك ترفض أي تدخلات أجنبية في شؤون دول المجلس وتنظر إلى ذلك على أنه تهديد مباشر لأمن بقية الدول. كما اهتمت منذ وقت مبكر بإنشاء قوات عسكرية مشتركة على أعلى مستوى، لامتلاك قوة الردع التي تصون الأمن، تجسيدا لحق تلك الدول في الدفاع عن أمنها وصيانة استقلالها بالطرق التي تراها مناسبة، ضمن مبادئ القانون الدولي.

في الإطار ذاته أولت المملكة اهتماما بالغا بتعزيز التعاون الخليجي المشترك، وتنمية العلاقات التجارية، وإزالة العوائق التي تحول دون حرية تدفق التجارة بين الدول الست، لأن التكتلات الاقتصادية باتت هي الطريق الأقل تكلفة نحو تحقيق المكاسب والوصول إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي من السلع.

أما في المجال السياسي فقد كان التناغم والترابط والتنسيق هو سيد الموقف، حيث تكاد مواقف الدول الخليجية المختلفة تتطابق في معظم القضايا. وعلى الرغم من احتفاظ كل دولة بوجهات نظرها الخاصة والبحث عن مصالحها بمختلف الطرق، إلا أن دول الخليج ظلت تتمتع بالتنسيق الكبير فيما بينها، لاسيما في القضايا الإقليمية والدولية المصيرية.

من أكبر ما يميّز دول مجلس التعاون الخليجي إدراك قادتها لحقيقة المصير المشترك الذي يجمعهم، وتقدير الروابط الوثيقة التي تربط بينهم، والتمازج الفريد الذي يضمّهم جميعا حيث يشتركون في وشائج القربى وصلات المصاهرة ووحدة الدين واللغة وتشابه الأنظمة السياسية وتقارب النهج الاقتصادي وإرث التاريخ. لكل ذلك ظل المجلس هو المظلة الأكثر أهمية لدول وشعوب الخليج، حيث لعب دوراً حاسماً في تحقيق الأمن والاستقرار وتسريع عجلة التنمية وتنسيق المواقف في العديد من الأحداث الإقليمية والدولية.

ونتيجة لتسارع الأحداث الإقليمية والدولية وتعقيدات السياسة العالمية وما تشهده بعض دول الجوار من حروب ومآس وما تتعرض له من مؤامرات ودسائس، إضافة إلى المحاولات المستمرة للنظام الإيراني لتأجيج الأوضاع في دول المنطقة، فإن ذلك يفرض علينا ضرورة الانتباه بعيون يقظة وعقول متقدة لتلك الأوضاع، والعمل على صيانة دول المجلس من الآثار السالبة لتلك الصراعات، ولا يتأتى ذلك إلا بتغليب المصلحة العامة، والابتعاد عن كل ما يعكر صفو السرب الخليجي، فنحن جزء من العالم ولسنا في منأى من آثار تلك الأحداث، فلا بد من قراءة سليمة للمستقبل، وإعداد العدّة لكافة السيناريوهات المتوقّعة.

ولأن دول الخليج العربي من أغنى دول المنطقة والعالم، فقد باتت بفضل ما تشهده من نهضة اقتصادية مضطردة وازدهار على الأصعدة كافة، وما تتمتع به من موقع جغرافي محط أنظار الأعداء والأصدقاء، والمنطق يفترض أن نتحسب لما يمكن حدوثه، لأن الحق في هذا العصر لا بد له من قوة تحرسه وتدافع عنه، ومن الخطورة أن تكون مهمة حفظ أمننا وضمان سلامتنا بأيدي غيرنا، مع تقلبات السياسة وتغيراتها ورهن الأهواء والمصالح الدولية.

كذلك من الأهمية الابتعاد عن الأيديولوجيات الهدامة التي لا يريد أصحابها لأمتنا خيرا، ولا يسرهم أن يروها ناهضة مزدهرة، فهناك كثير من القوى والأطراف الإقليمية التي تركز على افتعال الأزمات بين دول المجلس وتحاول تأجيج تباين الرؤى وتضخيمها، لأنها اعتادت أن تقتات من هذه الخلافات، وتحقّق المكاسب من استمرارها، لذلك تبذل كل ما بوسعها لتوسيع الفجوة بين الأشقاء، واستغلال الأحداث لكسب أرضية ونفوذ سياسي وعسكري في المنطقة.

ومما يبعث على الثقة أن ملوك وأمراء دول الخليج، بما عرف عنهم من حكمة ثاقبة وبعد نظر قادرون على تفويت الفرصة على الأعداء، وإفشال مخططاتهم الهدامة، والتمسك بالروابط التاريخية التي تجمعهم، والحفاظ على منظومة المجلس التي استمرت صامدة لما يزيد على أربعين عاما وواجهت مواقف أشد صعوبة وأكثر تعقيدا.