حينما نقتفي أثر العلاقة بين النص والصورة، نكتشف علاقة وثيقة ومطردة تجذرت على مر التاريخ، حيث أخذت الصورة في تقديم تفاسير مبسطة على هوامش المخطوطات في العهود القديمة ومع بداية التدوين، وكانت مكملة للنص حتى احتلت الفضاءات التعبيرية والرمزية، وأصبحت تتسيد كتبا بأكملها.

ثمة علاقات تربط الصورة بالنص، فتارة تكون علاقة «تعاضد» مثلما جسدها كثير من الرسامين بجعلهم الرسومات تسير في خطوط متوازية إلى جانب النصوص في الكتب التعليمية والعلمية، وتحويلهم القصص الشخصية وحتى الخيالية إلى رسومات كاشفة عن المساحات الجمالية المستترة في ثنايا تلك القصص، وقيامهم برسم أغلفة الكتب كخلاصة عامة أو كثيمة رئيسية معبرة عن مضمون الكتاب بأكمله. وتارة تكون علاقة «تضاد»، فقد لا تعكس الصورة مضمون النص، أو قد تكشف مضمونا خفيا لا يرغب النص في كشفه، أو العكس حينما تحجب الصورة مضمونا أتاحه النص. وبين علاقة التعاضد والتضاد هناك حزمة من العلاقات الوسيطة التي تسودها حالة من التماهي بين هذه العلاقة وتلك.

بعض النصوص الموضونة ازدهت فضاق حيزها بمضمونها، وآثرت- بعد ذلك- الوثب نحو فضاء جديد أكثر اتساعا ورحابة، وأكثر اتساقا وغرابة، كي تتمدد في آفاقه، وتنبثق في أرجائه متحررة من أصفاد الورقة ومنعتقة من إحداق الغلاف.

لا أذيع سراً لو قلت هناك إبداعات ارتضت أن تبقى حبيسة النص ولم تجرؤ على تخطي حدوده، وهناك إبداعات استطاعت أن تحل وثاقها وتجاسرت على تلك الحدود، ثم وثبت من عتبات النص الجامد، متجاوزة أطر الصورة الثابتة، إلى فضاء السينما المائرة، فتموضعت في أفقها الرحيب، وتسربلت بحلتها المائزة.

ولأن كل جملة- مهما التمعت في عين قارئها- تحمل في أحشائها ما لم تبح به، أي أنها حبلى بمضمون كامن فيها ويحتاج لأن ينسل إلى خارجها كي يكشف المزيد من لمعانها ومعناها، لذا، كانت الأعمال الدرامية استجلابا للضمائر المستترة، ومورا للحروف الساكنة، واستنطاقا للروايات الصامتة، واصطهارا للنصوص الجامدة.

الجملة– كما وصفها الجاحظ في كتابه «كتاب الحيوان»: «ضرب من النسج، وجنس من التصوير»، ويرمي هنا إلى التصوير الذهني، الذي تبلور بعد ذلك وتطور إلى تصوير سينمائي يخاطب كل الحواس، وينفذ إلى كل العقول، مقيلا العثرات، ومذيبا الفروقات، ومتجاوزا الطبقات.

علاقة الكاتب والقارئ بالنص الإبداعي علاقة من اتجاهين: «استغراق» يقابله «إغراق»، وبينهما مسافة يسيرة تعدل حرفين. هناك جمل تقذف بك خارج النص فتكون مسكونا به، وهناك أخرى تغل بك إلى غوره فيكون مسكونا بك، وبين الأولى والثانية قد يخلق عمل سينمائي بديع يكون السكنى للنص وشاهده.

لا أغالي إن قلت بأن الأدوات التحليلية التي تتناول النص والصورة متقاربة إن لم تكن مشتركة أو حتى واحدة، فإذا كان النص يصف الأفعال فيمكن للصورة أن تنقلها، وإذا كانت اللغة تشتمل على الصفات فإن العدسة قادرة على تحديدها، وإذا كانت الكتابة تشي بأيديولوجية الكاتب ومضامينه الدفينة، فإن التصوير يكشف عن أيديولوجية المصور وخباياه المتوارية.

المماحكة بين النص والصورة ليست حديثة عهد، وقد انطوت على كثير من الشواهد والأحداث وكذلك الأحاديث التي كان البعض منها موضوعياً، والبعض الآخر سفسطائيا.

إحسان عبدالقدوس الأديب الكبير الذي اختط لنفسه خطا مغايرا، واقتطف مكانة أدبية وفنية مرموقة بين أترابه، تخطى دوره كأديب كلاسيكي إلى مساهم فاعل في صناعة السينما، ليس فقط عن طريق رواياته وقصصه التي تم تجسيدها إلى أفلام، ولكن كذلك بالأعمال التي شارك في كتابة السيناريو والحوار للكثير منها، فموهبته الفذة واتت جمعه بين كتابة القصة الأدبية والسيناريو والحوار الفني، وقد كان مناقضا في هذه الجزئية تحديدا لتربه الأديب الكبير نجيب محفوظ الذي كان أقرب منافسيه من حيث عدد الأعمال التلفزيونية والسينمائية، فلم يكن يعتقد في فترة ما بوجود طرف آخر-خلاف كاتب العمل الأدبي الأصلي- لتناول أي ناحية كتابية أخرى في العمل، لأنه كان مؤمنا بخصوصية العمل الأدبي الفائقة، بعكس إحسان عبدالقدوس الذي كان مؤمنا أيضا لكن بتزاوج الأدب بالدراما حتى لو كان بعدة كيفيات.