الدراسات العلمية والأكاديمية المتخصصة التي كانت ولا تزال تتمحور حول التفسيرات والتأويلات للنصوص عمومًا، كانت تتسم بفكر الكليات والمطلقات المجردة، وإن كانت تلك التأويلات يوجد فيها من يُقرر قواعد ومبادئ للتفسير، والتأويل إلا أن تلك القواعد والمبادئ كذلك تتسم بعدم الاتفاق عليها وتتصف بالفردانية، والسبب في ذلك هو أن التأويل والتفسير يتخللهما مدارس وفلسفات.

وتكاد تلك المدارس والفلسفات تتناقض مع بعضها البعض في رؤيتها وتأويلها لتلك النصوص، وقد كانت تلك المدارس والفلسفات تقوم على الاجتهادات الفردية، ولم تكن قائمة على اجتهاد جماعي ومنظم، مما يجعل تلك المدارس المتخصصة في تفسير النصوص وتأويلها تنظر لكل ما يحيط بالتأويل والتفسير من كل جوانبه ومساراته، ومن ثَم فإن تلك المدارس عندما يتم تنزيل فلسفة التأويل المختارة على النصوص يحدث التناقض وعدم الاتساق. ولقد جعلتُ قيد المختارة في فلسفة التأويل لأن فلسفة التأويل للنصوص يتوجب أن تُراعي المكان والزمان والظروف المحيطة بتلك المجتمعات والأفراد المراد تنزيل تلك النصوص عليهم، وذلك لأن تفاعل النصوص بمعزل عن المجتمعات، وما يكتنفها من ظروف مكانية وزمانية سوف يجعل تلك النصوص تسير في مسارات شاذة ويتناقض مع الطبيعة البشرية في كيفية اختيارها لنهجها ومسارها في العيش بسلام واستقرار، ولا شك أن كثيرًا من الخلل الذي حدث في الماضي البعيد والماضي القريب، وما يحدث في واقعنا المعاصر انبثق وكانت انطلاقته من عدم مراعاة الاختيار السليم للفلسفة التي يتأسس عليها التأويل والتفسير للنصوص.

كانت التجارب الماضية في فهم النصوص وتأويلها قد جرت الويلات والحروب والقتل والدمار والتخريب والبشاعة في جعل القتل وإهدار الدماء هي النتيجة للتأويل والتفسير للنصوص، وهذا كان حاضرًا في نهج جماعات الخوارج في بدايات التاريخ الإسلامي، ثم بعد ذلك تمثل في مسارات كثيرة حتى انتقل إلى التأويل الفقهي، والتي كانت له نتائج سلبية في مسائل فقهية وجزئيات لا يمكن أن تصل إلى التحريم أو الواجب كما هو عند الفقهاء والأصوليين.

وقد حدثت أحداث قتل وانتقام، كما وقع بين الحنابلة والأشاعرة في بغداد، وكما في فتنة القشيري والنزاع المذهبي بين الحنابلة والمعتزلة، بل إن هناك نزاعًا وخلافًا وقع بين القاضي أبي يعلي الحنبلي، وابن فورك الأشعري، حيث إن ابن فورك قد صنف كتابًا، وهو إثبات التأويل، ثم رد عليه القاضي أبي يعلي بكتاب سماه «إبطال التأويل»، واحتدم النزاع والخلاف المذهبي بين الأشاعرة والحنابلة حتى وصل إلى جامع المنصور في عام (461هـ).

وقد انفرد ابن البناء الحنبلي في إيراد هذه القصة، ثم رأينا ذلك في عصرنا القريب، سواء ما وقع من أحداث في السبعينيات في مصر وفي نهاية السبعينيات في حادثة الحرم، وكذلك ما وقع في حادثة قتل الرئيس أنور السادات، وما وقع من أحداث قتل ونهب وسرقة خلال الثمانينيات والتسعينيات في مصر والجزائر، ثم وصولًا لما وقع من أحداث إرهابية في السعودية واليمن، ثم توالت أحداث القتل والتدمير في الولايات المتحدة الأمريكية في حادث سبتمبر 2001، ثم بعد ذلك أحداث العراق وسورية، وتسببت تلك الأحداث في تبني تأويلات وتفسيرات لإنشاء خلافة مزعومة في مسمى داعش، ثم تشظت جماعات التكفير والجهاد المسلح، وذلك تأسيسًا على التأويل والتفسير الذي تبنته تلك الجماعات.

وهذا يجعل ما ذكرته في مقدمة هذا المقال أنه حجر الأساس في فهم النصوص، وذلك بأن تكون وسائل فهم النصوص وتأويلها يتأسس على الفلسفة والمدرسة التأويلية المختارة المتأسسة على قواعد مراعاة الظروف للمكان والزمان، وقواعد مراعاة ما يحيط المجتمع من ظروف تُحتم اختيار مسار من مسارات فهم النصوص، ذلك لأن النصوص وتأويلها وتفسيرها لها مدارس ومناهج وطرق كثيرة جدًا، ومدارس فهم وتقعيد التأويل وتفسير النصوص مرت عبر التأريخ برؤى وتصورات كثيرة، فمن تلك المدارس ما هو تقليدي كلاسيكي ينظر إلى النص ويسير مع ذلك النص دون أدنى اعتبار لأي عامل من العوامل المؤثرة في السياقات التاريخية لذلك النص.

وهناك من المدارس من ينظر إلى ما وراء النص من حكم ومعان ومقاصد تدور وجودًا وعدمًا مع ذلك النص، وهناك مدارس تنظر إلى النص المقروء وقارئ النص وتجعل بينهما تفاعلاً، وهناك مدارس تجعل القصد من النص ومن القارئ هو المعول عليه في التأويل والتفسير، وهناك مدارس تنظر إلى النص في سياقاته اللغوية وإشارته البلاغية في معزل عن القارئ للنص، فالمدارس التي تقرأ النصوص وتبحث في فلسفة تأويلها كثيرة جدًا، إلا أننا عندما نجد أن هناك مسائل في فكرنا وتراثنا وثقافتنا لما تُحسم بعد، وهذه المسائل لاتزال تُستعمل وتُتخذ وسيلةً في إرباك المجتمعات والدول تهددها في أمنها واستقرارها، بل إن كثيرًا من الدول سقطت في وحل الحروب الأهلية والإقليمية والدولية وفي القتل والدمار، فهذا يجعل المراقب والمحلل والمسؤول المهتم بشئون أمن مجتمعه ووطنه واستقراره من أصحاب الخبرات الذين نشأوا في تلك المجتمعات وعايشوا تلك المسائل التي لم تُحسم، ورأوا أثرها الحقيقي، أن يبرزوا ويوضحوا تلك المسائل التي لم تحسم بعد.

ومن تلك المسائل قضايا التكفير والجهاد وقضايا الحكم بغير ما أنزل الله، والولاء والبراء، ودار الأسلام ودار الكفر، ومسائل موانع التكفير ومسألة العذر بالجهل، وقضايا اليقينيات والظنيات، ومسائل الأنكار على المخالف الفقهي فضلاً المخالف العقدي، الموقف من المخالف في الدين ممن نشأ يهوديًا أو نصرانيًا، ومسائل التشريع وقضايا حرية الاعتقاد، والموقف من فلسفات الحكم، الشكل الدستوري للدول، هذه قضايا رئيسة قد تم تركها للباحثين، وتوزعت على الفقهاء والمفتين، وتنافس عليها أنصاف طلبة العلم المتحمسين، فأتوا بعجائب الدهر وألصقوا بالشريعة الإسلامية ما ليس منها من فهوم معوجة وآراء ترتب عليها تدمير المجتمعات.

ولأضرب مثلًا وأحدًا يوضح خطورة تلك المسائل، مثل مسألة عدم العذر بالجهل، وأن قيام الحجة يُكتفى بقراءة وسماع القرآن، ثم بعد ذلك يُجرى أصحاب الفهوم السطحية والأغرار الصغار الحكم الشرعي على من وقع في مسألة يظن ذلك الغر أنها كفر بواح، فإنه سوف يقتله ويمزقة ويستحل دمه وماله.

هذه المسائل الكبرى ما لم تُحسم باجتهادات جماعية ورسمية، وتتخذ فيها لوائح، ويصدر فيها أنظمة تُحدد مسار تلك المسائل الكبرى، فإننا سوف نظل نرى أولئك الأغرار، وكثيرًا ممن أنتهج النهج التقليدي يُردد مسائل وفتاوى قيلت في عصر له ظروفه الزمانية والمكانية، أنهم يتبنون التأويل والتفسير الذي يُنتج القتل والتدمير وعدم الاستقرار.