سأستهل هذا المقال بتسلسل زمني للحركة النسوية، وحراكها، من بدايات ظهورها كمفهوم:

ففي 1792: كان اعتراض ماري ولستونكرافت على تبعية المرأة، في كتابها «إحقاق حقوق المرأة»، وفي 1869، صدر كتاب «خضوع المرأة»، لجون ستيوارت ميل، وفي 1894، أول استخدام معترف به يتم تداوله لمصطلح «نسائي»، ثم «نسوية»، ثم تاليًا «الحركة النسائية»، وفي 1918: منح النساء البريطانيات حق التصويت لمن كانت فوق الثلاثين، وفي 1920: تم تعديل الدستور الأمريكي بحظر نزع حق الاقتراع بناء على الجنس، وفي 1949: صدر كتاب «الجنس الآخر» لسيمون دوبوفوار، وفي 1960: بدأت الموجة الثانية للنسوية، وفي 1990: بدأت الموجة الثالثة للنسوية، أو ما يعرف (بما بعد النسوية).

النساء من خلال الحركة النسوية، كنَّ يردن أن يقلن للعالم: يدًا بيد نحو إخوة عالمية بين الجنسين، وهو الشعار الأبرز للنسوية عبر تاريخها، وحرفها عن هذا المسار ردات الفعل الناجمة عن إخفاق الجهود، وعدم الوصول إلى النتائج المأمولة، ما أدى إلى تطرف الفعل النسوي، تجاه الرجل بشكل عام.

ماري ولستونكرافت (1759-1799) كتبت «إحقاق حقوق المرأة» (1792)، والتي اعتبرت واحدة من أولى الوثائق المناصرة لحقوق المرأة، وترى ماري: إن النظرة حول المرأة هي بناء ثقافي مجتمعي، وترى أنه لا اختلاف بين الرجل والمرأة، وتؤكد أن العقل هو محور الاختلاف، وهكذا يجب أن يكون محل النقاش، وتجادل وتقول: إن النساء كائنات عقلانية مثلها مثل الرجال تمامًا، ولذلك ينبغي أن يسمح بتكافؤ الفرص لتطوير قدرات العقل والأخلاق. وأنه يجب تثقيف المرأة بدرجة مساوية للرجل، وأن يتم تعليمهم بنفس المنهجية كي يطوروا خصائص وفضائل مثل الشجاعة والإقدام والعدل والعقلانية كما يفعل الرجال. وتقول: إن المرأة إذا طورت مثل هذه الخصائص فإنها ستكون قادرة على أن تكون زوجة فاضلة، وأما مثالية، وسيكون بمقدورها أن تعيش بكرامة واستقلالية بعيدًا عن ظلم واضطهاد ووحشية الرجل، وكان جون ستيوارت ميل يقول: «التبعية القانونية التي يتبعها جنس لآخر يجب أن يستبدل بها مبدأ المساواة الكاملة»، كان ميل مكسبًا كبيرًا للنسوية في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وما بين كتابي ولستونكرافت وميل قريبًا من الثمانين سنة، أو أقل، ولكن يتضح بجلاء بساطة مطالبات الحركة النسوية في موجتها الأولى، وهي مطالب بسيطة وبديهية، ومن أساسيات العيش الكريم الحر لأي إنسان، والملفت أن هذه المطالبات ما زالت قائمة حتى اليوم، وبذات النص، غير أن ما حرف المعادلة عن مسارها هو تحول النسوية من المطالبة بحق مشروع، إلى أيديولوجيا تفترض ولاءً معينًا، وأجندة معينة. وفي أواخر الموجة الأولى للنسوية فشلت عمليات الضغط المهذب أمام المعارضة الذكورية الراسخة وعندها لجأت النسويات الأوائل إلى النضال والعنف أحيانًا.

وفي الموجة الثانية، نشط نوعان من النسويات: ناشطات جماعات المصالح، وكان جهدهن موجها إلى التأثير في النخبة السياسية، ومن ثم القرارات السياسية والتشريعات، وناشطات يستخدمن الخطاب الثقافي، والذي أثمر عن أهم وثيقتين في هذا الصدد هما: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948، اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو cedaw) عام 1979.

في الموجة الثالثة، أو ما يطلق عليها (ما بعد النسوية) عملت الحركة النسوية على تعميق مفهوم الاختلاف بين الذكر والأنثى على شرط الندية بينهما وانتفاء التراتبية، مع مواصلة الضغط المطلب الأساس للنسوية وهو المساواة، تم الإصرار، وتوالي الإصرار، على تفرد الطبيعة الأنثوية للمرأة والمختلفة عن الطبيعة الذكورية للرجل، وجاء هذا في سبيل نقد بنية فكرة التضاد، وبنية التفكير الديني الذي يقوم على التعارض والتراتبية، وليس على الندية والاختلاف والتنوع.

تؤكد سوزان فالودي في كتابها: «الحرب غير المعلنة على النساء، 1999»، أن موجة (ما بعد النسوية): هي رد فعل مدمر للمكاسب التي حققتها النساء في الموجة الثانية، وتضيف بأن انتماء النساء إلى ما بعد النسوية لا يعني أنهن وصلن إلى تحقيق العدالة والمساواة مع الرجال وتجاوزنها إلى ما هو أفضل.

في التسعينيات، اكتسبت الأفكار المتعلقة (بالنوع/الجنس) صيغة جديدة مع ظهور دراسات الاختلاف الجنسي التي لا تعنى بالنضال التحرري من أجل المساواة، بل تهتم بإثارة التساؤلات حول الأطر السائدة عن المعيارية القائمة على النوع، من أجل إعادة صياغة موقع الذات. وتحاول النسويات الربط بين المطالب المتعلقة بالنوع ونقد العولمة الليبرالية، وعدوانية السوق، ومعارك التنافس، حيث يرينها تشجيعًا على العودة إلى العنف في العلاقات الإنسانية، ويدركن أنه حين يحل العنف في المجتمع فإن أولى ضحاياه هن النساء، لذلك هن يناضلن مع الرجال من أجل تغيير العالم نحو عالم أكثر عدلًا وسلامًا.

وتعتقد النسويات الجدد أن بلورة الوعي في سبيل التغيير ستؤدي إلى استقطاب المزيد من الرجال إلى الحركة النسوية، مع العلم أن مهمة من هذا النوع ستكون ثورة فعلية، وستؤدي إلى إزالة أكثر المظالم عن المرأة، وإلى تحرير الرجال بدورهم من أدوار القمع والهيمنة التي يمارسونها، بهدف بناء مجتمعات عادلة يعيش فيها الجميع أحرارا ومتساوين.

في الموجة الثالثة، حلت الفتاة القوية الصارمة الشرسة، مكان الفتاة التي تكتسب قوتها من أنوثتها، ويضرب كمثال على الفرق بين الفتاتين، المغنية الأمريكية (مادونا، مولودة في 1958) الجريئة والقوية والمقتحمة، والمغنية الأمريكية أيضًا (جوان بيز، مولودة في 1941) الحزينة الباحثة عن ذاتها، وكلاهما ناشطتان من ذات الحركة، الأولى من الموجة الثالثة، والثانية من الموجة الثانية.

النسوية في موجتها الثالثة، حققت مستوى من الشمولية والتعددية فاق ما تم تحقيقه من قبل، وأوفت بوعد تحقيق حركة نسائية حقيقية، وما زال للحديث صلة.

بلورة الوعي ستؤدي إلى استقطاب المزيد من الرجال للحركة النسوية، مع العلم أن مهمة من هذا النوع ستؤدي إلى إزالة أكثر المظالم عن المرأة