ليس هذا المقال لاتخاذ موقف من المشهد الأمريكي بقدر ما هو لاتخاذ موقف من المشهد النخبوي العربي، وتفاعله مع ما يحدث في الولايات المتحدة. ففي الأشهر الأخيرة، كثر البكاء على الديمقراطية الأمريكية، وما حل بها من سقوط وتشويه لسمعتها الدولية، وبدأ هؤلاء النائحون يتساءلون ويحللون، بل ويعطون النصائح للأمريكيين، ليتمكنوا وقادتهم من إعادة بلادهم إلى ما كانت عليه قبل ولاية دونالد ترمب، الذي أفسد الديمقراطية، وجعل سمعة أمريكا في الحضيض، وقليلون منهم ينحون باللائمة على خصوم ترمب، ويرون أنهم هم السبب فيما حل بهذه الديمقراطية العريقة.

عجيب جدا هذا التباكي، ولا سيما في منطقتنا العربية والإسلامية، حيث إن من أرسخ أدبياتها السياسية المعاصرة أن الولايات المتحدة عدو المنطقة الأول، والمسؤولة عن جميع الموبقات والعاهات منذ اعترافها بالكيان الصهيوني حتى اليوم. نعم أتفهم سر هذا التباكي لو صدر عن «غلاة الليبراليين» في العالم العربي والإسلامي، لأن سقوط الديمقراطية الأمريكية يعني سقوط مثلهم الأعلى الذي يفاخرون به، ويدعون دولهم إلى أن تحذو حذوه، أما القوميون ومعتدلو الليبراليين والإسلاميون فالتباكي الذي أراه لدى كثير منهم لا يتناسب مع أدبياتهم، إذ أن سقوط النظام الديمقراطي الأمريكي، وفق الأدبيات الأكثر شيوعا لدى التوجهات الفكرية العريضة في العالم العربي والإسلامي، قد يعني عودته إلى الانكفاء على ذاته، وانشغاله بمشكلاته، وتخليه جزئيا أو كليا عن دعم الكيان الصهوني، وعن محاربة القومية العربية والجامعة الإسلامية والنهضات الوطنية. فلا مبرر أجده للتأسف على هذه الديمقراطية، سواء أكان هذا المتأسف مناصرا لترمب أم لخصومه، وإن كان العجب الأكبر هو من موقف الفئة الثانية الذين يلقون باللوم في كل ذلك على الرئيس ترمب، وما يعانيه من جنون وهوس وغرور وغطرسة وعنجهية وحمق، إلى غير ذلك من الصفات التي لا تخلو منها أو من بعضها أكثر كتابات النخب العربية التي تعمل على تحليل الوضع في الولايات المتحدة. كل ذلك مع أن ترمب، سواء أقررنا بإصابته بهذه العلل أم لا، لم يتورط في حرب تستهدف أمتنا أو دولنا، ولم يدعم أي حركة انفصالية أو حركة عنف متطرفة، ولم يسهم في إذكاء أي حرب أهلية على عكس جميع أسلافه، ابتداء من جيمي كارتر وانتهاء بباراك أوباما، الذين تورطت بلادهم بأحجام مختلفة في جميع أنواع الجرائم التي أسلفت ذكرها، بل إن ترمب فضح بعض ما خفي من تورط إدارة سلفه (أوباما) في دعم بعض الجماعات المتطرفة مثل «داعش»، ودعم الثورات في العالم العربي. كما انتقد الغزو الأمريكي للعراق، ومن ثم تسليمه لإيران التي كان ترمب الرئيس الوحيد الجاد في محاربتها، وأظن أنه لولا قوة المعارضة له في مجلسي الشبوخ والنواب لكان له ولها شأن آخر.

قد يكون الشعب الأمريكي محقا في عدم انتخاب أكثريته ترمب وفق النتائج المعلنة، وقد يكون مجلسا الشيوخ والنواب في بلاده محقين في الاصطفاف ضده، وقد يكونون مخطئين أيضا، لكن في حالتي خطئهم وصوابهم هم ينظرون من زاوية أمريكية بحتة، يُقيمون الموقف من خلالها. كما أن علينا نحن أن نعي أن مواقفهم منطلقة من هذه الزاوية التي لا تتسع سوى لبلادهم ومصلحتها، ولا نعنيهم نحن ولا بلادنا إلا فيما يرونه يتعلق بهم وحدهم. لهذا علينا أن نعي جيدا أن لنا زاويتنا التي ينبغي أن نُقيم المشهد من خلالها، ولا ننظر إلى أمريكا إلا فيما يخدم مصالحنا، فإذا وصف الأمريكيون ترمب بكونه أرعنا، لكون تصرفاته أو أفكاره أو ألفاظه في رأيهم لا تخدم أمريكا، فليس من الكياسة أن ننقم عليه هذه الصفات حتى لو أقررنا بوجودها فيه، وربما أصابنا ببعضها، ما دمنا قادرين على أن نستفيد منه معها، بل هو بها أنفع لنا من رئيس رزين لبق، لكنه يعمل على تقسيم منطقتنا وبث الصراعات والفوضى فيها.

الباكون، أو لنقل «القلقين»، من مثقفينا العرب على الديمقراطية الأمريكية، التي يتسبب ترمب أو يسهم في تدميرها - حسب وصفهم - ليسوا فئة واحدة، بل فئات، إحداها أناس انساقوا دون شعور وراء الإعلام الأمريكي المتضامن ضد ترمب بشكل منقطع النظير، وهو إعلام من المستقر في أدبياتنا أنه صهيوني، فهل تغير رأينا في الإعلام الأمريكي حتى أصبحنا لا نضع حتى ولو علامتي استفهام وتعجب على عدائه الشديد وتضامنه ضد ترمب ليس في وقت الانتخابات، التي لم يستسلم ترمب لنتائجها، بل من أول يوم وطأت قدماه عتبات البيت الأبيض وهذا الإعلام متجه بكليته ضده؟!، حتى على الرغم من محاولاته اجتذاب القوى الصهيونية عبر موقفه من القدس، وسعيه للتقدم بحركة التطبيع، فإن الصهاينة الأمريكيين لم يقبلوا به. ألا يدعو ذلك إلى التريث في اتخاذ المواقف؟.

ثم ألم يستفد هذا الفريق من أخطائه الماضية في الانسياق وراء الإعلام الأمريكي في تقييم رؤساء سابقين من أمثال بوش الابن، الذي فضلته النخب العربية بسبب مغازلته الجاليات العربية والمسلمة في حملته الانتخابية، ثم كان أول أعماله إعطاؤه مئة يوم للمجرم «شارون»، ليقتل فيها الفلسطينيين!.

ثم ابتهجت نخبنا بـ«أوباما»، وتغزلوا بالديمقراطية التي جاءت به، انسياقا أيضا وراء الإعلام الأمريكي ووراء خطابه في القاهرة، ثم لم نلبث زمنا حتى تبدى لنا في صورته الأشد سوءا.

أما الفئة الثانية من القلقين على الديمقراطية الأمريكية فهم كتاب يُعلنون بقوة سرورهم بانتصار بايدن، وتضايقهم الشديد من فوضى ترمب وأنصاره بشكل أقوى من كثير من الأمريكيين أنفسهم، وكثير من هؤلاء باعثهم إما الاشتياق لزمن الثورات العربية، التي يرون أن بايدن سيعيد جذوتها، وإما العداء للسعودية، التي يرون أن بايدن يشاركهم في عدائها، وسيعمل على تحجيمها وتقوية إيران عليها.

والفئة الثالثة أنصار المشروع الإيراني، الذين يتحمسون لـ«بايدن»، لأنه سيقف مع إيران ليس ضد إسرائيل بالطبع، ولكن ضد الأمة الإسلامية بأسرها.

إذن فليست الزاوية التي تنظر نخبنا العربية منها إلى المشهد الأمريكي زاوية مصلحة الأمة، بل المؤسف أنها زاوية أحقاد وتحزبات، تخدم تآمرات أمريكا في المنطقة، ولا تخدم المنطقة بشيء مطلقا.

بالطبع لست هنا مناصرا لترمب أو بايدن، فهذا شأن الأمريكيين وليس شأني، لكني أدعو لأن ننظر لسياسات الدول العظمى بعيوننا لا بعيونهم.