البكاء أولى المهارات التي يتعلمها الإنسان بعد التنفس، وفي التالي من الكلمات جزء من خبر ذاكرة معطوبة، كثيرة التشققات، يلح عليها لحن أغنية (طير ما لك والبكا خلي البكا لي)، للفنان اليمني أيوب طارش، والتي رددناها ونحن صغار من باب لطف كلماتها، وخفتها على ألسنتنا التي لم تتمرن جيدا على الكلام وقتها، وعقلنا بعد. كم هي عظيمة تلك المعاني النبيلة التي صاغها الشاعر اليمني عبد الله عبد الوهاب نعمان في الأغنية. إلحاح الذاكرة ذاك جاء بعد أن قرأت سؤالا تويتريا، يقول: متى آخر مرة بكيت فيها؟ فرجعت بي الذاكرة خمس عشرة سنة إلى الوراء تقريباً، وذلك بعد مضي زمن على انتهاء أيام العزاء في وفاة شقيقي الأصغر ماجد- رحمه الله- أذكر تلك الليلة جيدا، في عاشر ليالي الوفاة، اجتاحتني رغبة عارمة بالبكاء، بعد تمنع روحي، وتحجر نفسي، ضد التعبير الأوفى للروح، البكاء. كانت رغبة البكاء تلك الليلة ملحة أشبه بحاجتك للسعال حينما يعلق في حلقك شجى أو غصة، فانتقلت من فراشي إلى قسم الرجال في منزلي لضمان ألا يصطاد انكساري أحد تلك الليلة، فأخرجت ما في جعبتي من أسى وألم لساعة، أو تزيد قليلا، وبعدها توضأت وخرجت لصلاة الفجر، وقد انتهى الأمر، وكأنه لم يكن، نمت نوما عميقا صحوت بعده لقضاء بعض الحاجات، ورجعت لتناول القهوة والتمر والجمع بين عدة أعمال في وقت واحد، كما هي عادتي المفضلة، مطالعة الأخبار وقراءة الصحف التي دخلت منزلي لأول مرة من عشرة أيام وزيادة، وكذلك قراءة فهارس الكتب الجديدة التي اقتنيتها صباح ذلك اليوم، وأثناء مزاولة هذه المتع، هتف جوال زوجتي- حفظها الله- فخرجت إلى مكان غير بعيد حتى لا تضطرني لخفض صوت التلفاز، الذي أخفضه تلقاء سماع جرس الجوال، وكأني أشير لها بعدم ضرورة الخروج، والحال هكذا تناهى إلى سمعي طرف من الحديث، وكانت المتصل سيدتي الوالدة- حفظها الله- فتجيبها زوجتي على سؤال ما، قائلة: «... أبشرك توسع صدره، وقاعد يتقهوى ويقرا الجرايد»، لم أكن أعلم وقتها أني تحت المجهر، وأن كل تحركاتي وتصرفاتي مرصودة، وبشكل يومي، ربما لأني كنت في عالم آخر، لم يمكنني الأسى فيه من الانتباه لما أنتبه له عادة. كنت أظن أني مصدر قوة لوالدي- حفظهما الله- في هذا الأمر، كنت أزورهما يوميا نتحدث، ونتسامر، ونضحك، وأعود بعدهما لأنكفئ على نفسي وعلى حزني، وكانا الأخبر بي من نفسي، والأرفق، والأرحم، والأكثر إيماناً بقضاء الله وقدره، كانا يرقبان المشهد بصمت، ومسايرة، ومواساة لطيفة رفيقة، عبر تقبل مواساتي لهما، كانا يعظانني بطريقة غير مباشرة، وأنا الذي كنت أظن أني مصدر لصبرهما. سألت سيدي الوالد- حفظه الله- ذات يوم: أنني أعرف أن من سنة الحياة، أنه كلما تقدم بالإنسان العمر صار أكثر رقة، وأسرع بكاء، وهذا لا يحدث معي، هل أنا على طبيعة أخرى غير تلك التي عليها أهلي، ومجتمعي؟! فقال لي: هذا صحيح، هي سنة الحياة، ولكنك لم تصل إلى السن أو الحدث الذي يجعلك أكثر هشاشة».

كنا نرى ونحن صغار، رجالا كأن قلوبهم قد قدت من حجر، ولكن حينما تطاول بنا وبهم الأمد، وشاخت أعمارهم، رأيناهم كالأطفال في رهافة الحس أو أشد، بل ربما ابتدروا البكاء من لفتة وفاء، أو من ثناء عابر.

نقلت لي زوجتي- حفظها الله- ذات مرة، حوارا لها مع إحدى قريباتها، هل رأيت خالدا يبكي ذات يوم؟! فقالت لها: «لو رأيته على هذه الحال، ربما انهرت». وهنا قيد شديد على روحي ونفسي، أن تكون ركنا لا يهتز لمن يرتكن عليك بعد الله، لم تكن زوجتي وهي تنقل لي هذا الحوار تدرك أنها وضعت بيني وبين البكاء سدا كبيرا منيعا صعب المرتقى.

ما زلت أرى أن من أقسى الأمور في الحياة، خلا هدر الكرامة، هو بكاء الطفل ألما أو حزنا، والبكاء مسموح به بقدر معين، وحتى سن دخول المدرسة، إذ إنها سن يبدأ الطفل فيها بالإدراك، وبعدها سألوم نفسي كثيرا وطويلا، على أي بكاء لأطفالي، وهذا لا يعني خلو تربيتهم من العقاب أو الحرمان التربوي، المهذب للسلوك. كلا، بل هو العقاب الذي يتم بالاقتناع بالخطأ، ومعرفته، ومعرفة علاجه، والالتزام بتلقي العقاب عليه، ولا حاجة البتة لمجاوزة الحد حتى نضطرهم إلى البكاء.

حينما أتأمل موقفي من البكاء، أجد الشعار الكبير الذي رضعناه في المهد «الرجال لا يبكون»، أول الأسباب، كما أن مرد الأمر يعود إلى صفة العناد، وبعض عقد الصبا، فحينما كنا نتلقى أي عقاب كان، من أي أحد من كبارنا، أو كبار الشارع، كان الأسرع بكاء هو الأسرع نجاة في الغالب، أما أنا فكنت أعاقب الأقوى مني بدنيا أو سلطة، بعدم البكاء، مما يجعله يزيد إمعانا في الأذى، وكنت أوصي الصغار حولي بهذا الأمر، على الرغم من أنني آخذ حصتي كاملة غير منقوصة من البكاء، ولكن بعد مرور الحدث، وحينما أكون منزويا على ألم روحي، وألم جسدي.

أخيرا، أشد المواقف شراسة على القلب تلك التي تجد فيها أن البكاء لا يفي بالغرض، فيتحجر في مآقيك.