التاريخ عموما، وتاريخ كل أمة هو المعني بتفسير التصرفات التي حدثت وانقضت ما دام أفراد تلك الأمة يسعون متلهفين لنيل عمق التأمل، وإطالة النظر فيما وقع من أحداث، كي لا تتكرر تلك الوقائع، خصوصا التي كانت دموية ومأساوية، وأثخنت جراحها كل أفراد تلك الأمة. وقائع التاريخ وأحداثه وما جرى فيه تأسرني كثيرا، وتستوقفني كي أتجرد من زماني المعاصر، محاولا الدخول في عمق التاريخ الذي أنظر فيه لأصل للعمق والتأصيل لجميع وقائعه وأحداثه، ثم مقارنتها بما استجد في واقعنا المعاصر، مستصحبا ما اختزلته الذاكرة من معارف، خصوصا في مجال مقاصد الشريعة وفقهها، الذي هو المحك في تفريعات واختلافات أمتنا من علماء وطلاب علم وجماعات وأحزاب. ومن تلك الوقائع والأحداث ما جرى في تاريخنا بما يسمى في عصور تاريخية ماضية «الخروج على السلطة» أو «الخروج على السلطان» أو «الخروج على الإمام»، فكل هذه المسميات هي لحقيقة واحدة، كما يقول علماء المنطق وأصول الفقه إنه لا مشاحة في الاصطلاح (فلا مشاحة في الألفاظ بعد معرفة المعاني). عند التأمل في تاريخ وقائع الخروج على السلطة نجد أن ذلك الفعل التاريخي، المنطلق من فهم النصوص وتنزيلها بشكل غير متلائم مع المقاصد الكلية العامة للشريعة الإسلامية، قد وقع بشكل متكرر وفي عصور تاريخية مختلفة. فمن تلك الوقائع التاريخية خروج الحسين بن علي - رضي الله عنه - على معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه، وخروج أهل المدينة على يزيد بن معاوية، فقتل منهم الآلاف في وقعة «الحرة» في 63هـ، وخروج عبدالرحمن بن الأشعث ومعه القراء وخيار علماء السلف على الحجاج بن يوسف بالعراق في 82هـ، وخروج زيد بن علي بن الحسين على هشام بن عبدالملك بالعراق في 122هـ، وخروج محمد بن عبدالله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، الملقب بـ«ذي النفس الزكية»، على أبي جعفر المنصور بالمدينة في 145هـ، وخروج إبراهيم بن عبدالله بن الحسن بن علي بن أبي طالب على أبي جعفر المنصور في 145هـ، وخروج محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن الحسن، المعروف بـ«ابن طباطبا»، على المأمون في 199هـ، وخروج أحمد بن نصر الخزاعي على «الواثق» في 231هـ بالعراق. هذه الوقائع حدث فيها قتل وتشريد، ولم تتحق الأهداف التي يرجوها من خرج على السلطان أو الدولة، بل إن كثيرا من العلماء تاريخيا قرروا حقيقة أصبحت يقينا، وذلك باستقراء أحوال وعناصر الأحداث التي وقعت، حيث قال ابن تيمية: «ولعله لا يكاد يُعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته»، وكذلك قرر: وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير كالذين خرجوا على يزيد في المدينة، وكابن الأشعث الذي خرج على عبدالملك في العراق، وكابن المهلب الذي خرج على ابنه في خراسان، وأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرج بخراسان، وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة، وأمثال هؤلاء وغايتهم إما أن يغلبوا وإما أن يُغلبوا ثم يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة. ويقرر الإمام القرافي المالكي: «ضبط المصالح واجب، ولا تنضبط إلا بعظمة الأئمة في نفس الرعية، ومتى اختلفت عليهم أوأُهينوا تعذرت المصلحة»، فأمر الخروج على الدولة ومصادمتها وإرغامها بالإكراه والجبر على التغيير هو في حقيقته فعل جنوني لا يمت لذي عقل بأية صلة، بل إن هذا الفعل ممجوج ومرفوض حتى فيما يُزعم أنها دول هي من معاقل حقوق الإنسان والحريات العامة، فهذه المصطلحات والألفاظ هي محركات للمشاعر السطحية لكثير من العامة وشبيبة المجتمعات ممن لا يمتلكون أي حس حقيقي لمفهوم المجتمع الآمن والاستقرار الوطني والعيش الهادئ الرغيد، فحقيقة الدعوات اليسارية والليبرالية المتطرفة للتجمهر والتظاهر، للمطالبة بالحقوق وانتزاع الحريات، هي مقولات شر وتحتضن بداخلها هدما وتحطيما لكل كيانات المجتمعات الآمنة والمستقرة. مجتمعاتنا الخليجية، ومجتمعنا السعودي خصوصا، تحكمها قيم ومبادئ مستمدة من مبادئ ومقاصد الشريعة، المتمثلة في كثير من قواعده الكلية التي تنتظم مع حقيقة الإنسان البشرية، وهي أنه يتوجب على الفرد في مجتمعه المسلم أن ينتظم تحت قيادته التي لها سلطة عليه، وهذا متقرر في قاعدة فقهية يمكن صياغتها بشكل فقهي قديم «عدم منازعة السلطان» أو «الخروج على الإمام شر كله»، وهذه القاعدة، كما يقررها الفقهاء، من القواعد التي يمكن أن تستمد من النصوص، ذلك أن القواعد الفقهية في صياغتها إما أن تكون منتزعة من نص من نصوص الشريعة مثل القاعدة الكلية «لا ضرر ولا ضرار»، فهي مأخوذة من نص قول النبي صلى عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»، وإما أن تكون القاعدة الفقهية مبتدأها من صياغات فقهاء الشريعة مثل القاعدة الكلية «اليقين لا يزول بالشك» و«المشقة تجلب التيسير»، حيث يمكن صياغة قاعدة كلية فقهية في مجال حفظ الدول والمجتمعات واستقرار الأمن، وسد باب كل فوضى منابذة الدولة ومنازعـــة سلطاتها العامة، وذلك على النحـو التالي «بقاء الدولة هو بقاء للمجتمع» أو«تقويض سلطات الدولة هو تقويض للمجتمع»، أو بألفاظ ومصطلحات العصر مثل «مبدأ الثورات ممتنع شرعا وعقلا» أو قاعدة «امتناع الثورات على السلطات في المجتمعات الآمنة والمستقرة». ويقول ابن خلدون، عندما تحدث عن أن البشر لا يمكن حياتهم ووجودهم دون تعاونهم واجتماعهم وانضمامهم تحت لواء حاكم: «فاستحال بقاؤهم فوضى دون حاكم يزع بعضهم عن بعض، واحتاجوا من أجل ذلك الوازع وهو الحاكم عليهم»، وهذا الأمر منصوص عليه بنصوص نبوية إعجازية، جاءت لفرض الاستقرار والأمن في المجتمعات، وذلك عندما قرر كثير من النصوص عدم منابذة الأمر أهله (أي الحكام والسلاطين ورؤساء الدول)، والنهي عن نزع اليد من طاعة السلطان. كل تلك النصوص تقرر مبدأ الإذعان لسلطات الدولة، وعدم الخروج عليها والبقاء تحت سلطانها، وترك الانسياق تحت لواء النزوع لتشكيل العصابات والأحزاب والهيئات، لعمل المظاهرات والاحتجاجات التي يسوق لها اليسار الليبرالي المتطرف، وجماعات الأفكار الحركية المنتسبة لمسمى الإسلام. بداية سقوط الدول ودمار مؤسساتها وتشريد أهلها وقتل أطفالها وشبابها هو مسار الاحتجاجات، والخروج إلى الشوارع والأماكن العامة بقصد التظاهر، وإرغام الدول وإكراهها على فعل أمر أو ترك عمل، فإذا ما تمت تلك البداية واكتملت أوصافها وتحققت مراميها فأعلم أن المجتمع بدولته قد سقط في فوضى العبثية والعدمية، التي قررت الشريعة أنها «زمن الهرج والمرج»، فيتم القتل ولا يعلم المرء على ما قُتل، ولماذا نزع ماله وعرضه من أمامه دون أي ذنب قد جناه إلا ما قرره الفوضويون من أنهم سوف يحققون العدل والمساواة والحرية وينبذون الظلم، ثم يكتشف المرء أنها كانت شعارات يرددها الأغرار، ويحصد الأغراب الثمار، وتقبع المجتمعات في عدمية وعبثية لا يكاد يصدقها من كانت بلاده آمنة ومستقرة، فإن «الثمرة المطلوبة من الإمام تطفئها الفتن الثائرة من تفرق الآراء المتنافرة».