ما فتئتُ أُطالع وأستقرئ كثيراً مما يستجد من مؤلفات وبحوث فقهية وعقدية وأصولية تتعلق بالتخصص أو ما يتعلق به من دراسات مقاربة، حيث إن التخصصات النظرية أصبحت متقاربة ومتعلقة ببعضها البعض، ولا يكاد يميز بينها إلا من يملك خبرة دقيقة في تمييز تلك التخصصات، وأُقارن تلك الدراسات الأكاديمية والبحوث المتخصصة بواقعنا المعاصر وحاجتنا لتلك المؤلفات التي يُمضي فيها المؤلفون ردحاً من الزمن غير قليل قد يمتد إلى شهور وسنوات عديدة، للخروج بمؤلفٍ يحصل به على شهادة عليا إما الماجستير أو الدكتوراه، وهذه طبيعة العصر التي جرى فيها التعليم على نسق تلك الدراسات، وإن تلك المؤلفات كانت ولا تزال تشد اهتمام المطلع والقارئ إما بعمق بحثها وفائدتها، وإما بسطحيتها وعدم تقديمها الفائدة المرجوة لما نشهده من واقع معاصر، وإما أن تكون تلك الدراسات تحمل عناوين جذابة وتأسر من ينظر إليها لأول وهلة بيد أن التنقيب في ثناياها يُكرس بحوثاً قديمة وقد تم إخراجها بشكل مطبوع جديد، وإما أن تكون تلك الدراسات تحمل عناوين موهمة وضبابية وتمثل إشكاليات فكرية عميقة، وفي مضامين تلك الدراسات لا تجد إلا تكرارا لما قيل سابقاً، ومن هذه المواضيع موضوع التجديد في الدين أو الفقه أو التفسير أو أصول الفقه، ويجمعها كلها مفهوم ومصطلح التجديد، فكنتُ ولا أزال أتأملُ بعمقِ تفكيرٍ حديثاً كان له الأثر الكبير في الفكر المعاصر الحديث بشكل قد رأيناه ولمسناه عن قرب ومعاصرة، وذلك أن هذا الحديث كانت له اليد الطولى في تشكيل الأفكار وتبني الجماعات المنتسبة للدين الإسلامي لمساراتها، سواءً أكانت تلك الجماعات ذات طابع حركي فكري سياسي أم كانت ذات طابع دعوي خالص، وهذا الحديث هو حديث (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يُجدد لها أمر دينها)، وهو حديث رواه أبو داوود في سننه وغيره من أئمة الحديث بعده، بيد أن هذا الحديث من وجهة نظري كباحث في علل الحديث لمدة تتجاوز ثلاثة عقود لا يمكن أن يُستدل به على أمر عظيم وكبير، وقد يُقسم هذه الأمة بمجرد أن يُروى بسند متكلم فيه، وقد أعله الإمام الذي رواه وهو أبو داوود بعدم الاتصال، وأنه سقط من إسناده تابعي وصحابي فهو إسناد معضل، والإسناد المعضل هو من أقسام الأحاديث الضعيفة، والإسناد المعضل هو ما سقط من إسناده راويان فأكثر على التوالي، وهذه التسمية بالحديث المعضل كانت معروفةً لدى المتقدمين من علماء الحديث بأنه الحديث المنقطع الذي فيه علة الانقطاع، بيد أن المتأخرين الذي ألفوا في علوم مصطلح الحديث قد وسموا مثل هذا الانقطاع بأنه معضل، وذلك تمييزاً له عن الحديث المرسل، فهذا الحديث سقط من إسناده أبو علقمة وهو التابعي والصحابي الذي رواه وهو أبو هريرة، لهذا فإنه بناءً على هذه العلة ليس حديثاً وليس نصاً من نصوص الشريعة بل هو قول مقطوع على شراحيل بن يزيد المعافري، وحتى ما قيل إنه حديث مرفوع فيه شك من نسبة لفظه للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في قول الراوي عن أبي هريرة رضى الله عنه وهو التابعي أبو علقمة (فيما أعلم عن رسول الله) فهو لم يجزم جزماً يقينياً أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد شك في رفعه إلى النبي، فهذا الإشكال في الإسناد إذا اجتمع مع ما يأتي من النكارة في موضوعه ولفظه يجعل من غير المقبول أن يتم تأسيس الاعتقادات الجازمة في مسألة كبيرة وعظيمة في هذا الدين، وهي مسألة إرسال أو بعث رجل أو جماعة تُجدد هذا الدين عند كل رأس مائة عام، وذلك يتم استناداً على حديث فيه شك كبير لا يصح عند أصحاب العقول والفهم الحقيقي لأصول وقواعد ومقاصد هذا الدين، وكذلك فإن هذا الحديث فيه نكارة شديدة من حيث المتن، وذلك أن قواعد الشريعة ومقاصدها صالحة لكل زمان فهي واضحة وكاشفة لأحكام الشريعة، فهي تحتاج إلى الفهم والاستيعاب، وهي بهذا تُشكل الدين الإسلامي كاملاً فليست بحاجة لفرد يُجدد لها هذا الدين، ومما يوضح تلك الغرابة والنكارة في متن هذا الحديث هو إشكالية حقيقة مفهوم التجديد لهذا الدين الواردة في النص، فالآراء التي فسرت هذا التجديد جميعها تتمحور حول أن ما اندرس من الدين أو العودة إلى الكتاب والسنة وإزالة ما اعتوره من غبش أو خلل أو ما يعلق بالدين مما ليس منه، وهذه التفاسير لم تأتِ بشيء جديد يوضح أن هناك بعثاً جديدا وحقيقيا، بل كلها تفسيرات تتفق جميعها على أن هناك شيئاً قديماً وهو من الدين، بيد أن هناك إيحاء إلى أن هذا الأمر من الدين قد تم نسيانه واندثر، وقد يكون الأمر على خلاف هذا وخصوصاً أن العرف يلعب دوراً هاماً في تشكيل الأحكام ونفيها وإثباتها كما يُقرره علماء الأصول والقواعد الفقهية، حيث إن قاعدة العرف هي قاعدة من القواعد الخمس الكلية الكبرى، وهي قاعدة (العادة مُحكمة)، وفي حقيقة الأمر أن جل ما مثل له من احتج بهذا الحديث على التجديد هي أمور متخيلة وليس لها الأثر الحقيقي في حياة المسلمين، ولا تستحق أن يُفرد لها موضوعات وكتب وبحوث ودراسات ومحاضرات تُرسخ أن الدين بحاجة للتجديد، فينشغل بذلك الأمر المتوهم والمتخيل فكر الأغرار والشبيبة المتحمسة لشيء متوهم ومتخيل في عقلية المنظرين وأصحاب النفوذ، بل إن كثيراً مما يستجد في حياة المسلمين من معارف لا علاقة له بأمر التجديد في الدين، وله علاقة بالتكييف الفقهي لتلك المستجدات بناءً على قواعد وأصول ومقاصد الشريعة. بل إن مصطلح التجديد في الدين كان ولا يزال يتم استغلاله من الجماعات الإسلامية وجماعات التطرف الديني لإيهام الأتباع أن الدين يجب تجديده ويعنون بهذا المصطلح، وخصوصاً ما أدركناه خلال ثلاثة العقود الماضية أن التجديد المقصود به هو إعادة الإسلام إلى المجتمع بما يوحي إلى أن الإسلام قد اختفى واستتر من زوايا وأركان المجتمعات الإسلامية، وذلك لكي يتميز أصحاب هذا الاتجاه الديني سواءً أكان هذا التميز باللباس أو الأكل أو الشرب أو التحدث أو حتى طريقة التعامل مع كل أحد، سواءً أكانوا من الأقارب أو من الآخرين غيرهم، وهذه الطريقة التي تميز بها أصحاب هذا الاتجاه الديني هي من شكل الصحوة الإسلامية خلال الثمانينيات، وهذا ما نرمي إليه عندما نقول ونقرر أن أصحاب التوجهات الدينية في الجماعات الإسلامية يُسقطون مصطلحات وردت تاريخياً مثل مصطلح التجديد لتبرير الوجود الذي يُصاحبه التميز والمفارقة التي خلقت كثيراً من الإشكاليات الأمنية والفكرية، ونتج عن تلك المصطلحات جماعات الفكر المتطرف وجماعات التكفير والجهاد المسلح، ونشأت جماعات تجاوزت بأعمالها ما قام به كثير من جماعات الخوارج وكل من خرج على السلطات في قديم الزمان. ولهذا فإن مثل تلك النصوص والأحاديث التي يعتورها الضعف سنداً والنكارة والغرابة متناً، التي تُشكل مفاهيم ذات أبعاد إشكالية وينتج عنها مفاهيم ووقائع وتصرفات خطيرة، يجب إعادة النظر فيها وخصوصاً أن القول بأن تلك الأحاديث ضعيفة وغير صحيحة، ليس قولاً شاذاً أو هو قول موجه إلى أحاديث متواترة وبلغت حد اليقين، بل هي أحاديث تم إعلالها من حيث الإسناد ومن حيث غرابة متنها، ولا شك أن اعتلال الأحاديث في متونها المخالفة للأصول هو منهج الأئمة المتقدمين من أهل الحديث، مثل الأمام أحمد بن حنبل وابن معين وعلي بن المديني والإمام البخاري ومسلم والدارقطني، وهذه الطريقة في إعلال المرويات الحديثية لغرابتها ونكارتها هي طريقة مهمة جداً لطالب العلم والمفتي ولكل مجتهد في الأحكام، وذلك حتى لا يُقرَّر حكم شاذ وغريب عن المسار الفقهي الذي سار عليه أئمة الفقه وعلماء الأصول منذ قرون طويلة.