الدراسات التي تخصصت في التنظير السياسي في تاريخ الفكر الإسلامي، كانت تنطلق من وصف الواقع والعمل على جعله أقرب إلى الكمال، وحلِّ المشكلات التي تواجه القائمين عليه، وذلك كما صنع الماوردي وأبو يعلى في كتابيهما المتقاربين «الأحكام السلطانية»، وكما فعل أبو المعالي الجويني في كتابه «غياث الأمم في التياث الظُّلَم»، وكما فعل ابن الأزرق في «بدائع السلك في طبائع الملك»، وكذلك ابن خلدون في مقدمته، التي لم تكن متخصصةً في هذا الأمر، ولكنه قَدَّم في هذا السبيل أفكارًا نافعة، لكنها كسابقاتها من الدراسات، لم تتجاوز حكاية الواقع والتنظير لإصلاحه دون التفكير في تغييره، أو استحداث نظام جديد بديل عنه. وتعرضت هذه الدراسات في عصرنا الحاضر لنقد كبير بعيدٍ كلَّ البعد عن الإنصاف، بل بعيدٍ كل البعد عن الفهم الصحيح لِمَا فيها، فوُصِفت بكونها كُتُبًا وضعت لمجاراة الحكام، والتسويغ لهم والتنظير للاستبداد؛ ولم يكن الأمر كذلك، ولم تحتو هذه الكتب على شيء مما زعم أولئك الناقدون، بل كانت جارية على المبدأ الذي استقر عليه علماء المسلمين منذ انقضاء كارثة دير الجماجم حتى اليوم، وهو أن تغيير الأنظمة السياسية عن طريق الثورات والخروج على الحكام، لا يُثمر إلا فسادا. وقد جاء هذا الدرس الذي تحملت الأمة في باكورة تاريخها آلامًا كبيرة من أجل تحصيله، مُصَدِّقًا لسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث أمر بطاعة الحُكام في غير معصية الله وإن عصوا وإن جاروا، وقال: «تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم»، فجاءت كُتُبُهم في السياسة الشرعية، عبارة عن وصايا للحكام من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، وكذلك وصايا من تجارب الأمم التي سبقت المسلمين في الأنظمة الملكية، والإرشاد إلى تدابير في إدارة المملكة، وتحقيق العدل والقيام بأمر الدين والدنيا، فجمعت تلك الكتب كثيرًا من الإرشادات الإلهية والسُّنن النبوية والأحكام الفقهية، فيما يتعلق بكل ذلك، كما ضمت إلى ذلك من وصايا ملوك الفرس والهند والروم واليونان وحكمائهم، في سياسة الناس وتدبير المملكة، مما لا يتعارض مع الكتاب والسنة، وكذلك عملت هذه المصنفات على بيان الصفات الشخصية التي ينبغي أن يتحلى بها الحاكم، وكيف يختار جلساءه ووزراءه، وكذلك أوضحت التراتيب الإدارية، التي تُعين على حفظ المملكة، وإقامة العدل وتدبير الخراج، وتنظيم العلاقات الدولية.

فكانت تلك الكتب شديدة النفع للحكام، وكانوا يقرؤونها وتُقرأ في مجالسهم، ووجدت الأمة بفضل ربها سبحانه، ثم بفضل هذه الكتب خيرًا كثيرًا؛ إذ خرج كثير من الملوك والوزراء المصلحين الذين تحقق الخير الكثير على أيديهم، وإن حصل منهم أيضا كثير من الأخطاء، لكنها بمجموعها أقل ضررًا بكثير من الأضرار البالغة ،التي تحدث جرَّاء الخروج والثورات على الحكام، وصراع الممالك فيما بينها. ومن لا يعرف هارون الرشيد والمأمون والمعتصم، والمتوكل ومحمود بن سبكتكين، وألب أرسلان وعماد الدين زنكي، ونور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي، والملك الناصر الأموي ويوسف بن تاشفين، والناصر بن قلاوون، وغيرهم من ملوك المسلمين الذين ظَلَمَتْهُم عناية المؤرخين الكبرى بالتأريخ للحروب والتحولات السياسية، وضعف عنايتهم بالتأريخ للحياة العامة والمنجزات الحضارية والاقتصادية والعلمية.

فكانت كتب السياسة الشرعية مما وصل إلينا، ومما لم يصل إلينا، ذات تأثير كبير في إصلاح الأمة يتم إغفاله اليومَ عمدا، والتزهيد فيه، لا لشيء سوى أنه يتعامل مع الواقع باعتباره واقعا يُمكن إصلاحه، بحيث يؤدي إلى حفظ أكبر قدرٍ ممكنٍ من مقاصد الحياة الكريمة، والتي عَبَّر عنها علماء أصول الفقه بحفظ الضرورات والحاجات والتحسينات، وجعلوا حفظها بحفظ كُلِّيَاتِها الخمس، وهي الدين والنفس والعقل والعرض والمال. فكانت كتب الأحكام السلطانية وتدبير المملكة، تعمل في هذا الاتجاه دون أن تُحَمِّل المواطنين مغبَّة التصادم مع السلطات، لأن ذلك فضلًا عن كونه مخالفًا لما اتفق عليه الفقهاء، من وجوب لزوم الجماعة، يضيع المقاصد العليا للحياة بأكثر مما يُضيعه الاستبداد أو الأخطاء في تدبير المملكة.

ومعظم مباعثِ الاستهانة بتلك الكتب لدى المثقفين الناشطين في الفكر والعمل السياسي، من الليبراليين والإسلاميين على حدٍ سواء، الافتتانُ بالنظام الديمقراطي ومعطياته التي وُجِدت في بعض بلاد الغرب، كحق الانتخاب وتبادل السلطات والرقابة الشعبية على الحكومات، فتوهموا أن هذه المعطيات الجميلة ظاهرا لا يمكن تحقيقها دون الأخذ بالنظام الديمقراطي، وأن تحصيلها في بلاد المسلمين سوف يتم بمجرد الانقضاض على الأنظمة الحاكمة. وكَثُرَت في ذلك الكتابات التنظيرية والتي لم تتجاوز رغم كثرتها والأفكار التي حُشِدت فيها حد الأحلام البعيدة عن تصور الواقع تصورا صحيحا، ذلك مع ما يصف المفتونون بالمُنْتَج السياسي الغربي أنفسهم به من فهم الواقع، ووصفِهم مخالفيهم بالبعد عن الواقعية، إلا أن الفشل المستمر والذي تكرر في عقود مختلفة، وفي أماكن متباينة كان حريّا أن يُقَلِّص من قدر غرورهم في دعوى فهم الواقع إسلاميين ويساريين وليبراليين، لكن ذلك لم يحصل حتى اليوم، لأسباب متعددة أبلغها في نظري أنهم لم يستسلموا لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخروج على الولاة وإن كانوا وُلاة جور، ولم يستسلموا لما استقر عليه أهل العلم من أن درء المفاسد في الشريعة مقدم على جلب المصالح. لذلك لم يُقَدروا حجم الفساد الذي ستعقبه ثوراتهم، ومن قَدَّره منهم لم يأبه بذلك التقدير، وإنما لجأ إلى محاولة استنساخ التاريخ الفرنسي، الذي كان بين ثورته وبين قيام الديمقراطية في فرنسا أكثر من ثمانين عاما حمراء... وهو ما سنتحدث عنه في مقالنا اللاحق بإذن الله تعالى.