مشينا بالسيارة من باريس إلى بلجيكا وكانت المسافة بينهما 3850 كلم، وعلى طول الطريق لم نر موضعا من الأرض أجرد أو خاليا من الإصلاح والتعمير، بل كنا نرى جميع الأراضي إما غابات عظيمة أو مزارع منظمة. تسقى وتزرع جميعها على مياه الأمطار التي لا تكاد تنقطع عنها لا صيفا ولا شتاء، وكان بين حدود بلجيكا وعاصمتها بروكسل ما يقرب من 60 كلم، وكانت هذه المسافة كلها متصلة العمران جميلة البنيان ومساحة بلجيكا صغيرة وسكانها يبلغون سبعة ملايين نسمة، وهي بلاد صناعية وزراعية، وقد بهرتنا في الليل كثرة الأضواء في عاصمتها بروكسل، وتلك الإعلانات الكثيرة التي تشعل أضواءها المتعددة في أشكال جذابة وأنوار خلابة، أما البنايات خارج بروكسل فإنها فيلات صغيرة تتكون كل فيلا من الدور الأرضي ودور فوقه، وأغلب الفيلات مكونة من الدور الأرضي فقط، أما العمارات في بروكسل فإنها تبلغ الدور الخامس والسادس وشوارعها واسعة ونظيفة. وقد رأينا الترام يجوس خلال شوارعها بعد أن كان مختفيا عنا في باريس تحت الأرض، والترام في بروكسل غاية في الجمال والمتانة والكثرة، فلا ترى فيه ازدحاماً. هذا وقد لفت أنظارنا في الليل بإحدى ساحات بروكسل الكبيرة فرقة من الطلاب والطالبات اليهود يبلغون العشرين طالبا، رأيناهم وهم يكونون دائرة متماسكة الأطراف ويدورون حول دائرة لا يعدونها وقد تشابكوا بالأيدي وصاروا يدورون ويرقصون ويغنون أغاني شعبية لفتت الأنظار، وجمعت حولهم كثيرا من المتفرجين والفضوليين، وكنا من جملة النظارة، وقد علمنا أن هذه الفرقة من الطلاب اليهود الذين يقضون عطلتهم في بلاد أوروبا ويستعملون هذه الطريقة للإعلان عن أنفسهم وإلقاء بعض الدعايات لحكومتهم وشعبهم أثناء رقصهم. وحكومة بلجيكا ملكية دستورية ويبلغ سكان العاصمة بروكسل مليون نسمة، وجوها أبرد من جو باريس وهي أكثر غيوما وأمطارا، وهم يحبون مليكهم وحكومتهم ولذلك تجدهم في إعلاناتهم يضيفون كل شيء يعلنون عنه إلى اسم الملك، فالشراب الممتاز عندهم ملوكي واللباس الطيب ملوكي والفراش الوثير ملوكي، وهكذا قس على ما ذكر بقية الأشياء الأخرى، هذا كل ما استطعت أن أعرفه عن بلجيكا في زيارتي الخاطفة التي لم تتجاوز ثلاثة أيام.

إلى هولندا

سرنا من بروكسل عاصمة بلجيكا إلى هولندا وكانت المسافة إلى حدود هولندا 130 كلم ثم دخلنا الحدود الهولندية، وسرنا إلى مدينة روتردام وهي ميناء كبير على ساحل بحر الشمال، ويعتبر من أهم موانئ هولندا، والمسافة بينها وبين الحدود الهولندية 55 كلم، وكنا نرى المزارع وبيوت الفلاحين الصغيرة وقطعان البقر على يميننا وشمالنا، ورأينا العمران متصلا قد أخذ بعضه برقاب بعض، وأغلب عمرانهم بالطوب الأحمر الجميل، أما السقوف والأركان فبالأسمنت المسلح، وأغلب البيوت خارج المدن فيلات صغيرة تتكون كل واحدة منها من دور واحد أو دورين، ولكنها جميلة المظهر لطيفة المنظر، والطرق كلها مسفلتة سواء داخل المدن أو خارجها وبعضها قد رصف بالحجارة، كل واحدة منها في حجم الكف، وقد لاحظنا أن القطارات في هولندا تمشي بأسلاك من الكهرباء ممتدة على طول الطريق كما يمشي الترام داخل المدن، وهذا شيء لم نشاهده في باريس. ثم مشينا من روتردام إلى العاصمة أمستردام وكانت المسافة بينهما 60 كلم، وكانت البيوت والمقاهي متواصلة على طول الطريق لم نر موضعا خاليا. وصلنا أمستردام وقد لفت نظرنا فيها كثرة العجلات (البسكليت) فإن الناظر يراها أسرابا متتالية، وقد بلغني أن في هولندا 8 ملايين (بسكليت) أي قريبا من عدد سكان هولندا، فإن سكانها يبلغون 10 ملايين نسمة، أما سكان العاصمة أمستردام فإنهم يبلغون مليون نسمة، والأنهار والأشجار تتخلل شوارع المدينة، وقل أن ترى شارعاً إلا ويحف به نهر قد بنيت العمارات على جوانبه. وفي مدينة أمستردام 5 أنهر كل واحد منها يكوّن دائرة داخل المدينة، فالنهر الأول في قلب المدينة يكون دائرة ضيقة، ثم يليه النهر الثاني فيكون دائرة أوسع من الأولى، وهكذا النهر الثالث والرابع والخامس الذي هو أوسعها دائرة، يحيط بالبلد تقريبا كما يحيط السوار بالمعصم، وهم يستفيدون من هذه الأنهر وتخللها للبلد فوائد جمة، فهم يستفيدون منها في المواصلات وفي نقل البضائع وما إلى ذلك.