عندما نتحدث عن الثمانينات وهو العصر الذهبي للصحوة الإسلامية المشؤومة، فنحن نؤرخ لها ونكتب من أجل أجيال خرجت ولم ترَ أعينها ما نحتته وحفرته تلك الصحوة في أجسادنا، وما أحدثته من نتوءات وجراح ظلت سنين عديدة ولما تلتئم!!.

كانت أفكار الصحوة في بلادنا تتحكم في كل سكنات وحركات أفراد المجتمع من الملبس والمأكل والمسكن والعمل والسفر والنوم والتعاملات بشتى أنواعها حتى النَفَس الذي كان يتنفسه البشر، كانت تبتغي التحكم في ذلك كله وضبطه بزعم جعلها تتوافق وتتلاءم مع الشريعة الإسلامية، بل إن تلك الصحوة كانت ترتحل مع الأفراد أنى ذهبوا وأينما حطوا رحالهم، وبغض النظر عن حقيقة تلك الرحلة سواءً كانت للنزهة أم كانت للعلم وأعني به الابتعاث خارج المملكة، فقد كانت أفكار ومحددات الصحوة تُطاردنا في كل مكان بل تقتحم علينا بيوتنا وعلاقاتنا الأسرية والأخوية، وتلك التي كانت بين الأصدقاء، فرقت البيت الواحد فجعلته شظايا متناثرة من خلال الغوص في ثنايا مسائل علمية دينية هي في حقيقتها مسائل خلافية لدى فقهائنا. النظرة الأُحادية هي التي كانت تتحكم في مسطرة المجتمع ولا ترتضي إلا قولا أحاديا وحديا لا يقبل أي مرونة فقهية أو عقدية، وهو القول الذي يشي بالشدة والعسر على أبناء مجتمعنا. كم من مسائل فقهية خلافية جعلوا منها مسائل يقينية لا تقبل أي خلاف، ومنها -على سبيل المثال- قيادة المرأة للسيارة وكشف المرأة وجهها وكفيها، وإسبال الإزار وإطالة اللحى وتحريم حلقها وغيرها الكثير الكثير. كان ذلك التحكم يستمد شرعيته ومشروعيته من مصادر شتى ومنها السلطة الدينية المزعومة التي يرفع عصاها رؤوس الصحوة في ذلك الوقت، وهي ادعاء اتباع الكتاب والسنة الصحيحة، وهي دعوى هلامية تتصف بالمطلق الكلي الذي ليس له وجود إلا في الأذهان كما هو متقرر عند المناطقة والأصوليين. تلك الدعوى كانت تتجاذبها كل الحركات الإسلامية سواءً كانت إخوانية أم سلفية أم جهادية أم تبليغية، وهذه كانت هي الحركات الفاعلة والمؤثرة في المجتمع. كان تأثيرها شديدا على فئة الشباب من الجنسين، وشعارها المرفوع هو الرجوع والالتزام بالدين في كل شؤونه، وكأن المجتمع لم يعرف الإسلام والالتزام به قط!!، وكانت هذه دعاوى كبرى يتم ترسيخها في عقول ذلك الجيل كي لا يتحرك عقله بطرح الأسئلة والاستفسارات وبحث الإشكاليات التي كانت تخرج كثيرا، وتتبدى للعيان الظاهر عندما يبدأ ذلك الفرد الموصوف أنه ملتزم بالكتاب والسنة، وجميع شؤونه هي إسلامية المنزع والمنشأ والتفكير بما وراء ما يتلقاه من رموز تلك الحركات، فبمجرد أن يقرأ ذلك الفرد شيئا من الكتب التي تؤسس للخلاف الفقهي أو العقدي فيجد في تلك الكتب ما يؤسس لعقلية انفتاحية على الآراء، وأن الفقهاء ليسوا مجرد مرآة لبعضهم البعض، فيجد أن الفقهاء قد اختلفوا في فهم النصوص وتوجيه الأدلة وكيفية الجمع بين وجوه الأدلة المتعارضة، فينزع كل فقيه إلى منزع فقهي يعلم الخبير في أقوال الفقهاء أن هذا الفقيه توجه بهذا القول استنادا إلى مدرسته الفقهية التي لها أصول ومبادئ تم تأسيس تلك المدرسة الفقهية عليها، فلما يجد ذلك الشاب المسكين الذي كانت دائرة الصحوة قد أحاطته بفكرها الأحادي أن تلك السعة الفقهية والعقلية المنفتحة لدى أولئك الفقهاء الجهابذة، يعلم علم اليقين أن تلك الصحوة كانت لها أهداف مستترة في ضميرها الذي انحدر إلى الهاوية باستغلاله للفئة الشابة بيضاء القلب، والتي تبحث عن الحقيقة التي غطتها تلك الصحوة المشؤومة بمقولاتها الإيدلوجية. وأصبحت تحكم قبضتها على زمام المجتمعات والقفز إلى التحكم في المجتمعات، فعند اكتشاف ذلك الشاب حقيقة تلك الصحوة يجد أن المجتمع قد أحاطته تلك الأفكار المتشددة التي جعلته يكاد يكون غريقا في بحر من المسائل المتعارضة والمعلومات المتدفقة التي يجدها في كتب الفقهاء والأصوليين، وهذه حقيقة أكاد أحسها كل يوم أتنفس فيه، وذلك أن مسائل الخلاف العلمية كانت تشغل فكري كثيرا منذ أكثر من ثلاثة عقود، ويتفرع منها سؤال يكاد يكون هو السؤال الجوهري الذي يُزلزل كل قناعة تُخفي وراءها الصحوة جميع تصرفاتها، وهذا السؤال الجوهري «ما هو الخلاف المقبول وما هي حدوده؟ وما هو الخلاف الذي ليس مقبولا؟ وما هي المسائل التي لا إنكار فيها؟»، وفي الحقيقة أنني أمضيتُ عقودا أفتش عن الضوابط التي تجعل الناظر في المسائل العلمية يقرر أن هذا الخلاف مقبول، وأن ذلك الخلاف غير مقبول. قرأت كل ما يقع بين يدي من مؤلفات سواء الأكاديمية المتخصصة في الخلافات العلمية وضوابطها العقدية أم الفقهية، أم كانت مؤلفات حرة وأعني بها غير الأكاديمية من منظري الصحوة، فلم أجد ضابطا ومعيارا يكاد يسلم من القوادح العلمية أو الاستدراكات المنطقية أو يكاد يكون قاصرا غير جامع لكل مسائل الخلاف، بيد أنني استأنست في قبول العذر للمخالف في المسائل عموما إذا لم تكن المسألة تتصف بالإجماع القطعي فلا أستسيغ الخلاف فيها، أما ما عدا تلك المسائل التي لا تتصف بالإجماع القطعي فإن الخلاف والعذر فيها مقبول. وعلى هذا تتنظم الأدلة الشرعية وتسلم من القوادح المعتبرة التي تسقطها من الاحتجاج بها، ويمكن تخريج كثير من التصرفات والوقائع المعاصرة استنادا على ضابط لا إنكار إلا في مسائل الإجماع المقطوع بصحته، وبهذا التخريج يمكن فتح باب عظيم من أبواب الاجتهاد وبيان حقيقة مقاصد الشريعة الإسلامية التي جاءت متوائمة ومتوافقة مع كل عصر وزمان. هناك مسائل عديدة جدا ثبت فيها الخلاف الفقهي والخلاف العقدي ومنها تغطية المرأة وجهها وكفيها فهي مسألة الخلاف فيها عميق جدا، ولكل قول في هذه المسألة دليله ودلالته، إلا أن الصحوة جعلت منها معيارا ومما يفاصل عليها تيار الصحوة، وهو ميزان ومعيار لمفهوم الالتزام هلامي الفكرة والمتسم بأنه مفهوم مطلق كلي لا أثر له في الوجود حقيقة. كذلك مسألة الخلاف في إثبات الصفات ونفيها عن الخالق البارئ سبحانه وتعالى وهي مسألة خلافية في عمقها وتتجاذبها الأدلة والدلالات ولكل مدرسة عقدية أصولها وأسسها التي يبني عليها قوله في إثبات الصفات ونفيها. وكانت الإشكالية الحقيقية في فكر وعقلية الصحوة ذي النزعة الأحادية أنها تجعل تلك المسائل محل إجماع ولا خلاف فيها ثم تقرر أن المخالف لها هو على غير جادة الصواب وقد اقتحم حمى التحريم الإلهي وقد وقع في الأثم والعدوان، علما أن الفقهاء قد قرروا قاعدة ومعيارا حاسما في كيفية فهم تلك المسائل ووزنها بميزان دقيق. وتلك القاعدة هي لا ينكر المُختلف فيه، وإنما ينكر المُجمَع عليه، وبلفظ آخر لا ينكر إلا ما أجمع على منعه. وما دعاني لتذكر هذه الإشكاليات في فكر الصحوة هو ما فعلته عضو بهيئة تدريس عمادة كلية التمريض بالمحالة التابعة لجامعة الملك خالد طالبات التدريب بقرار يلزمهن بارتداء تنورة سوداء وبنطلون أسفل التنورة، وهذا تفكير إشكالي ولا يزال متأثرا بعمق فكر الصحوة، فهذا الفكر لا يراعي الخلافات الفقهية، وليس منفتحا على قبول أقوال الفقهاء المدونة منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا. لهذا فإن مدرك هذا الاتجاه لدى هذه الأكاديمية هو النزوع إلى التشدد والأحادية في رؤية الأشياء، وأنه ليس هناك ألوان متعددة بل هي إما أن يكون لونا ناصع البياض وإما السواد الذي لا يُرى فيه أي نور. ولو أن أصحاب هذا الفكر اتسعت مداركهم واستوعبوا الخلافات الفقهية لأصبحت مجتمعاتنا متقدمة ومتطورة، ولما أصبحنا نُعاني من القصور في التنمية والتطور، ومن الضمور والانكماش العقلي في رؤية الأشياء ومداركها.