مكة مدينة النور والأنس الإلهي.. بكة السكينة والسلام، مدينة لها ذراعان تضمان ضيوفها بحميمية لا تُنسى.. الزائر لهذا البلد الأمين سيلحظ ذلك حتما منذ اللحظة الأولى، سيعرف الفرق بينها وبين أي مدينة أخرى بمجرد أن يتركها خلف ظهره. سيلمس الحجم الهائل من التطور والعمران والخدمات التي ما فتئت تبذلها الحكومة السعودية، لتسهل إقامة الحاج والزائر والمعتمر، كتاب من المجد عظيم، سطرته الرعاية السعودية لأطهر بقاع الأرض، على مر عشرات السنين.

هذه المدينة أحد أهم أربع مدن في المملكة من حيث الحيوية، وهي دون ترتيب (مكة، الرياض، المدينة، جدة). موقعها الجغرافي الفريد أكسبها أهمية خاصة منذ أن كانت تمثل منتصف خط القوافل القديم، الواصل بين اليمن وبلاد الشام- في رحلتي الشتاء والصيف -، وهذا يشير بوضوح إلى أنها كانت مركز حراك تجاري مهما وحلقة وصل وثيقة بين الحضارات جنوبا وشمالا، ولم تكن بالمطلق بمعزل عن العالم. بفضل هذا الموقع الجغرافي، إضافة إلى مكانتها الدينية، انتعشت أسواقها التجارية وملتقياتها الأدبية الموسمية التي أكسبتها سمعة ومكانة اقتصادية رفيعة بين مدن الجزيرة العربية كلها على مر التاريخ.

فإذا كانت مكة تجتذب الناس من كل بقاع الدنيا لمختلف الحاجات، وأصبحت اليوم مدينة مركزية مكتظة بفضل ذلك، وواجهة أولى للعالم الإسلامي منذ أن رُفعت فيها أول لَبِنَة لبناء الكعبة، سيكون من الجيد أن تحظى مداخلها من كل الجهات، بما يتماهى مع رمزيتها ومكانتها، ويتسق مع المشاريع الضخمة التي تنفذها حكومتنا الرشيدة فيها باستمرار، وأكثرها نصوعا وسطوعا التوسعات التاريخية المتتالية لبيت الله الحرام.

إن أول ما تلحظه عيون المتلهفين إلى مكة، مداخل المدينة من كل جهاتها، التي هي أحوج ما تكون للمسات جمالية وإشراقات إبداعية، تتماهى مع مكانة المدينة وقيمتها الرمزية. إضافة إلى احتياجها الملح لمسطحات خضراء كبيرة تسر الناظرين، سواء في ميادينها أو شوارعها الرئيسة، ولا يخفى على أحد ما للأشجار من أهمية في بلد قائظ صيفا، دافئ شتاء!، حيث بإمكان شجرة واحدة ضخمة تزويد أربعة أفراد بالأوكسجين ليوم كامل! عوضا عن كونها (مُبردات) طبيعية لها تأثيرها في الطبيعة المناخية القاسية للمنطقة، إنها مثل تُحفة إلهية تنتظر من يستغلها بشكل مثالي لخدمة المظهر الجمالي العام للمدينة.

ولا أظن أن أحدا من سكان مكة يختلف معي في حاجتها الماسة لتطوير المرافق الترفيهية العامة، حدائق ومتنزهات كبيرة وبهيجة، بخدمات متكاملة وعلى أعلى طراز، لتكون وجهة للتنفيس عن سكانها ومزيّة أخرى للزوار، مُجانبة للمزارات السياحية الدينية. إذ إن حدائقها حاليا - على كل الاجتهادات المبذولة من قبل الإدارة العامة للحدائق - ما زالت أقل من المستوى المأمول، إضافة إلى أن أفضل هذه الحدائق عددها لا يتجاوز أصابع اليد!

إنها تعاني في الحقيقة من شح واضح في كل ما له علاقة بالترفيه، ولا يخفى على أحد أنها بحاجة لإنشاء المزيد من المشاريع ذات الصلة، حتى لا يضطر أهلها وزوارها للسفر إلى المدن المجاورة مثل جدة والطائف بحثا عن متنفس مناسب مثل ما يحدث الآن. (المولات) أحد هذه المشاريع التي يجب إعطاؤها بالغ أهمية، فليس من الصعب بمكان إعادة مكة لقوتها التجارية الأولى، بل ومن الممكن أن تتميز عن سواها من المدن باستعادة ملامحها المعمارية أو «لهجتها المعمارية» - بحسب المعماري الدكتور سامي عنقاوي - عن طريق تحقيق أفكار خلاقة على أرض الواقع، تنطلق - مثلا - من محاولة استعادة أسواق مكة التاريخية لكن بأنماط حديثة مستوحاة من ذاكرتها وتراثها العريق، ومن تلك الأسواق يحضرني (المدعى، سويقة، السوق الصغير). من شأن مثل هذه الخطوة أن يستعاد إرث مكة العمراني القديم ويدفع بها لمقدمة المدن المتطورة مع ما يمكن أن تحتمله كمورد ثقافي ومنهل حضاري سجل حضوره منذ فجر التاريخ. وإذا كانت أمانة العاصمة المقدسة أقرت إطلاق أسماء عدد من الحارات القديمة التي شملتها التوسعة، على أحياء جديدة، يكون جميلا، لو اعتمدت بناء مولات ضخمة بالنمط المعماري الذي يمثل شخصية مكة وهويتها العمرانية.

أهالي مكة المكرمة يجمعون على أن مشاريع التوسعة والتطوير الهائلة التي تؤكد اهتمام المسؤولين بهذه المدينة وتطويرها، لا يمكن أن تتنافى مع رفع معايير جودة الحياة فيها، وما يتوافق أيضا مع مكانتها الدينية الخاصة.