إن التوجهات القضائية تكون منضبطة وواضحة في كثير من دول العالم، خصوصا التي ترمي لاجتذاب الاستثمارات وجعل نظر العالم المالي يتطلع في تلك الدول كي يجد له موضعا لاستثماراته وأمواله وخبراته، هذا على سبيل النظرة الدولية أما على سبيل النظرة المحلية وحاجة المجتمع بكل شركاته ومؤسساته التجارية والمهنية فإن الحاجة لمعرفة التوجهات القضائية هي المحرك الأساس لكل تعاملات تلك المؤسسات بمختلف توجهاتها. بل إن الحاجة لمعرفة التوجهات القضائية تكون ضرورية وملحة لدرجة تكاد أن تتأسس عليها الأسرة والعلاقات العائلية، وذلك إذا ما كانت تلك التوجهات القضائية واضحة وتكاد تكون مرئية للعيان لكل حركات وسكنات العلاقات الأسرية، وذلك لما تُقرره من حلول ومخارج لكثير من الإشكاليات التي تعتري كل العلاقات بمختلف أنواعها ومقاصدها. فأصل معرفة التوجهات القضائية عادة تكون متأسسة على الفلسفة التشريعية لكل دولة ومجتمع، والفلسفة التشريعية تكون متأسسة على المصادر الأساسية والثانوية التابعة التي تستمد كل دولة منها تشريعاتها وأحكامها، فتنص القوانين الأساسية والدساتير على أساس فلسفة التشريع والمصادر الحقيقة لاستمداد التشريعات، وكذلك تنص تلك الدساتير والقوانين الأساسية على تأسيس السلطات التي تتكون منها الدول عادة، ومنها السلطة القضائية وكيفية عملها وتنظيماتها وتقسيماتها، فمن خلال الفلسفة التي تكون الأساس والمصدر الحقيقي للأحكام القضائية، ويمكن من خلالها معرفة الخطوط الرئيسية والعامة لتوجهات القضاء في كل دولة، فمثلا القضاء الأنجلوسكسوني المتمثل في القضاء الإنكليزي والأمريكي قد أشتهر بالعمل بالسوابق القضائية في المحاكم سواء في المحاكم الفيدرالية أو محاكم الولايات، خصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية، والعمل بالسوابق القضائية له أنصاره ومؤيدوه ومن أشهر حججه أن الأحكام القضائية في الدولة تكون متناسقة وغير متناقضة، وذلك على أساس أن كثيرا من الجرائم تتفق في عناصرها وتصرفاتها، وأن النصوص النظامية والقانونية تكاد تكون متفقة، بيد أن الاختلاف يكون في الظروف المحيطة بكل جريمة أو جنحة، ولذلك تختلف الأحكام باختلاف تلك الظروف وليس باختلاف الأفعال المجرمة ولا العناصر المؤسسة لتلك الجرائم، وكذلك من الحجج التي يسوقها من يرى أن العمل بالسوابق القضائية هو الطريق للعدالة بين أفراد المجتمع في الدول هو معرفة الرؤية القضائية والتوجهات للمحاكم وسهولة رقابة المحاكم العليا على أحكام المحاكم الدنيا، وأظن أن هذا مقصد مهم جدا كي تنضبط بوصلة توجهات المجتمع بكل مؤسساته التي هي مرتبطة بشكل أو بآخر بالجهات القضائية والمحاكم، وذلك أن مكونات المجتمعات ومؤسساته لها ارتباط إما أساسي وإما بشكل تبعي بالجهات القضائية، وهذا يُعزز ويقوي الارتباط بين الجهات المكونة للمجتمعات وهي الجهات القضائية والتنفيذية والتشريعية، ويجعل كذلك أفراد المجتمع لديهم وضوح في الرؤية في ضبط تصرفاتهم. وهناك في مقابل الجهات القضائية التي تُقرر الإلزام بالعمل بمبدأ السوابق القضائية هناك دول تتبع العمل بمبدأ العمل بتطبيق القوانين على طريقة القانون المدني الفرنسي، وهي أنظمة لا تعمل بالسوابق القضائية ولا تجعلها إلزامية، وأن كل قضية ودعوى لها ظروفها وأحكامها، بيد أن المحاكم العليا ومحاكم الاستئناف تُراقب مدى انضباطية وعدم تناقض الأحكام القضائية كي لا تتأثر العدالة القضائية في رؤيتها للأفعال الإجرامية. إلا أن هذه الدول تتميز بميزة واضحة وشفافة وهي أن التوجهات القضائية لكل المحاكم بجميع درجاتها و مستوياتهاهي في متناول كل أحد سواء الأفراد أو الشركات أو المؤسسات التجارية والمدنية، وكذلك الأحكام القضائية بكل أنواعها هي في متناول كل أحد، وهذا هو العامل الأهم والضروري في فهم التوجهات القضائية وانتشارها وسهولة الحصول عليها في مدة قصيرة جدا بل إنه بمجرد أن المحاكم تصدر أحكامها فإن المختصين وغير المختصين (عامة الناس) يستطيعون الحصول عليها بكاملها دون تجزئتها أو اختصارها اختصارا مخلا يجعل حقيقة الدعاوى ومجرى القضايا غير مفهوم، وهنا المقصود من مقالنا في إدراك التوجهات القضائية وفهمها كي يفهم المتلقي والمختص وفرد المجتمع كيف تعمل المحاكم، وكيفية وصول تلك النتائج القضائية من خلال إجراءات الدعاوى الميسرة، وهذا كله ولا يتحقق إلا بتسهيل إدراك التوجهات القضائية في أعظم سلطة هي الحاكمة لتصرفات الأفراد وضبط حركة المجتمع، ولا شك لدينا توجهات في تيسير معرفة الأحكام القضائية سواء في القضاء العام أو القضاء الإداري إلا أنني كمختص أجد أن تلك الجهود مشكورة ومقدرة، بيد أنها لا تُعين المختص أو الأكاديمي أو المستثمر على حقيقة معرفة التوجهات القضائية في أي تخصص من تخصصات المحاكم، وذلك أن نشر الأحكام القضائية بانتقائية وبحذر لا يُمكن من معرفة التوجه القضائي الحقيقي والمستقر عليه كمبدأ قضائي لا يمكن نقضه أو تغييره إلا بشروط وظروف تنص عليها الأنظمة والقوانين، وذلك عند تغيير المحاكم العليا أو محاكم النقض لمبدأ قضائي وحتى الدول التي تعمل بإلزامية السوابق القضائية فإن لديها شروطا وظروفا خاصة لطرح العمل بالسابقة القضائية ليس هذا مجال الحديث عنها، فهذه الأحكام لا يمكن للمختص أن يستمد بشكل يقيني على أن القضاء يعمل بمبدأ ما وأن المحاكم لا يمكنها العدول عنه، وبالتالي يمكن للمختص عند سؤاله من قبل المستثمرين أو المهتمين الذين لديهم دعاوى بأن توجه القضاء في هذه المسألة أو هذا النزاع هو المبدأ المنصوص عليه، فلكي أصل للمقصود من معرفة التوجهات القضائية وما تثيره من إشكاليات، سوف أضرب مثالين في مسألتين إحداهما في قضية مالية والأخرى أسرية تتعلق بالحضانة، فأما المالية فهي خلاف بين شخصين ليس بينهما بينة فحكم الخلاف بينهما القاعدة القضائية والفقهية المعمول بها في كثير من القوانين المقارنة، وكذلك القضاء المقارن، وهي قاعدة البينة على المدعي واليمين على من أنكر، فلما لم يستطع المدعي إقامة البينة فليس له إلا يمين المدعى عليه فإما أن يبذل المدعى عليه اليمين وإما أن ينكل عن بذلها، فإذا لم يبذل المدعى عليه اليمين فإن للقاضي (والمعمول به فيما أعلم من قضايا) أن القاضي يطلب من المدعي أن يبذل اليمين كي يتقوى جانبه ويتم الحكم له فإذا بذل المدعي اليمين المردودة له من قبل الناكل وهو المدعى عليه فإن القاضي يحكم للمدعي بالحق المدعى له، فإذا أراد المدعي عليه الناكل أن يبذل اليمين بعدما رُدت اليمين للمدعى وتم الحكم له فإن الناكل عن اليمين وهو المدعى عليه لا يُمكن من بذل اليمين لأنه كان له الحق في بذلها فلم يقم بهذا الحق حتى يجعل القضاء يحكم له، وحتى لا تكون التعاملات عرضة للتلاعب وعدم الاستقرار في المراكز النظامية، ولأن الحكم في القضية قد تم كما ينص عليه القاضي الشيخ الفقيه عبدالله بن خنين، في شرحه القيم حاشية الروض المربع، وهذا الأمر وهو عدم تمكين الناكل من بذل اليمين بعدما نكل عنها هو مذهب لا يكاد يُخالف فيها فقيه فيما أعلم، وهو ما أخذ به نظام المرافعات إلا أن هناك أحكاما قضائية من قبل الاستئناف مكنت الناكل من بذل اليمين بعدما صدر حكم بنكوله وقام المدعي ببذل اليمين، وهذا مخالف لما عليه الفقهاء ومخالف لما نص عليه نظام المرافعات، فهذا يجعلنا كمختصين لا نستطيع معرفة التوجهات القضائية على سبيل اليقين، و مسألة النفقة الماضية للأبناء التي لم يبذلها الزوج في حالات الزوج المطلق، هناك بعض القضاة يحكم بعدم استحقاق الزوجة للنفقة الماضية تأسيسا على (أن الأصل في النفقة الماضية هو السقوط مطلقا وعدم الاستحقاق إلا بفرض حاكم عند جمهور أهل العلم إذ هي نفقة وجبت لإحياء النفس وسد حاجتها)، وهناك أحكام قضائية اطلعت عليها قضت بالنفقة الماضية للزوجة تأسيسا على أنها باقية في ذمة الزوج وهي دين عليه، فمن أجل هذا الاختلاف في المبادئ والأحكام ولعدم معرفتنا بحقيقة التوجهات القضائية بكل سهولة ويسر فإن توفير الطرق الميسرة للحصول على التوجهات القضائية، أمر مهم لمواكبة الرؤية الحقيقية لعام 2030، وهي السبيل القوي لجعل الطرق ميسرة للاستثمارات العالمية كي ترى هذا البلد المعطاء أنها هي المستقر الحقيقي للاستثمار و المقر الآمن لمدخراتهم وخبراتهم.