مما لا شك فيه أن تركيا كدولة تمتلك العديد من المقومات الاقتصادية والتنموية ولكن (وأشدد هنا على كلمة ولكن) طرأ على تاريخها القديم الحديث الكثير من المفارقات السلبية في كافة شؤونها الدينية والاجتماعية، والأهم من كل ذلك السياسية، الأمر الذي جعلها محط أنظار الجميع في المنطقة والعالم.

لقد كانت تركيا خلال حقبة زمنية معينة مسرحا كبيرا روّاده ساستها الذين قادوا عملية انسلاخ تركي كامل عن معظم مظاهر الدين الإسلامي، رغبةً في شراء ود الدول الأوروبية، ولكن خيّب الأوروبيون مجتمعين هذه المساعي، رغم كل التنازلات العقدية الضخمة التي قدّمها القادة الأتراك في سبيل التقرب من الأوروبيين والفوز برضاهم. ونتيجة لهذا الفشل الذريع الذي أحبط مطامحهم وتطلعاتهم الغربية، تبدلت سياستهم وتوجهاتهم وتحولت بوصلتهم بجميع أركانها نحو المشرق بعد أن لفظها الغرب بكل ذلٍ واحتقار، وهذا التحول كان هدفه الأوحد والوحيد هو السعي لتعويض ما منيت به سمعتها من انحطاط وعبث، عبثٌ ساهم في تفاقم معاناتها ومعاناة شعبها مادياً ومعنوياً. ولقد تمحور هذا التحول المشار إليه آنفاً حول الرغبة التركية الحثيثة في استعادة أمجادها البائدة على حساب مقدّرات ومصالح دول ومجتمعات الإقليم المجاور لها، وذلك لسببين الأول لحفظ ماء وجهها الذي أراقه الأوروبيون أبشع إراقة، والثاني لتحقيق أمجاد توسعية تليدة تحمل صبغة دينية كاذبة لا علاقة لها بالدين من قريب أو بعيد.

ومن بين الدلائل التي نفّرت العرب من تركيا وأسهمت في التشكيك في نواياها، تبنيها جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، واحتضان الكثير من أفرادها ليس حباً فيهم وإنما لاستخدامهم من ناحية كورقة تفاوض تُرهب تركيا بها البلدان العربية التي ينتمي إليها هؤلاء الأفراد، ومن ناحية أخرى وسيلة تدّعي من خلالها أنها المنقذ الوحيد للإسلام والمسلمين، رغم أن واقع تركيا الحالي لا يسعفها كثيراً في هذا الجانب، حيث إن مجتمعها يعج بالمنكرات والمخالفات الدينية الصريحة، والتي يُسمح بمزاولتها رسمياً كتعاطي الخمور مثلاً والأذن بفتح دور للدعارة، ناهيك عن السماح بالشذوذ الجنسي وعدم اعتباره جريمة يعاقب عليها القانون.

هذا بالنسبة للمخالفات الدينية، ولكن شرّ تركيا لا يقتصر على هذه المخالفات، بل نجده يتّسع ليشمل التدخل السياسي والعسكري في عدّة بلدان عربية كسورية والعراق وليبيا لبسط نفوذها عليها، ولكن يبدو أن هذا الواقع المؤلم الذي أسهم في وجوده الدور التركي المزعزع للاستقرار والأمن في تلك البلدان ساهم في ظهور مقاومة شعبية تناهضه في تلك البلدان العربية المتأثرة سلباً بالسياسة التركية.

ومن مظاهر المقاومة الشعبية لتركيا ودورها التخريبي في المنطقة، إفراز المجتمعات المستهدفة للعديد من الإجراءات العقابية في المجالات الاقتصادية والسياحية، والتي تعتبر في تركيا من أهم ركائز الدخل القومي، ممّا علّق الجرس بالنسبة للأتراك حين بدأوا يستشعرون مدى خطر هذه التوجهات الشعبية عليهم، وبدأوا يدركون أيضاً مدى أهمية تغيير نهجهم العدواني والحد منه تجاه دول المنطقة العربية، وذلك أولاً لرفع ما يكابده شعبهم من قصور وويلات نتيجة المقاطعة الشعبية الفعّالة والمؤثرة، وثانياً لتحسين علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع دول الإقليم، رغبةً في تخفيف حدّة الضغط الاقتصادي والسياسي عليها، وهذا تماماً ما بدأنا نتلمسه ونرى إرهاصاته هذه الأيام.

إن ما يجب أن تعلمه تركيا وقادتها أن استرجاع الماضي وما تحقق فيه من أمجاد مزعومة، هو أمرٌ مستحيل ولا عودة له مهما حَلُمَ الأتراك بذلك، فسنّة الحياة تؤكد أن الماضي سيظل ماضيا وأهميته تمكن فقط في أن يستفيد البشر من دروسه وعِبَره، لا أن يسعوا لاستعادة تاريخه البائس، تاريخ يؤكد الواقع استحالة عودته مهما دندن له المدندنون وتغنى به الهالكون، ومن لازال لا يدرك هذه الحقيقة التي لا يمكن حجب شمسها بغربال فمآله ومآل مجتمعه بلا أدنى شك سيكون التدهور والدمار من جهة، والتدني التنموي والحضاري من جهة أخرى.