تتفاوت المدارك والأفهام، فهناك الموهوب والذكي وضدهما، ولكن مما لا شك فيه أن الكاتب - مهما بلغ من الذكاء والفهم - لا بد له من قاعدة تقوم عليها أفكاره، هي حصيلة ما تختزنه ذاكرته من معلومات، وأي أديب عربي إذا لم تكن لديه ذخيرة جيدة من تراث أمته، فإن إنتاجه يكون ضحلا، لا أقول عديم الفائدة، بل مبتور الصلة عما لأمته من حياة فكرية، حيث تقوم وظيفته في حياته الأدبية على صلته بتلك الحياة، بل على تقويتها ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

هما أمران ألمحت إليهما من أسباب ضعف الإنتاج الأدبي: الرغبة في نشر ذلك الإنتاج قبل أوان نضج التفكير، وعدم التمكن من الوسائل التي تحقق لذلك الإنتاج الاستقامة والقوة بالتعمق في دراسة التراث العربي تعمقا يمكن الكاتب من تقويم أسلوبه وتوسيع مداركه. وكما يحصل هذا من أثر الدراسات المختلفة، فإن للمطالعة أكبر الأثر في تنمية حصيلة تلك الدراسات، بل ليس من المبالغة القول إن أثرها أعمق وأقوى، وهي مهيأة للإنسان في أي لحظة من لحظات حياته، وما عليه إلا اختيار ما يطالع، وأن ينظم من أوقاته ما يلائم ظروف حياته.

ولقد كنت - إلى عهد قريب - أنصح كل من استشارني ورغب أن أنصحه بما يقرأ من كتب أن يقرأ كل ما يقع في يده من كتاب أو صحيفة، وكان ذلك قبل أن تطغى موجة النشر في أيامنا. لقد كانت الصحف التي تقع تحت يدي القارئ محدودة، وكذا الكتب، أما الآن فقد طفح الكيل كما يقال، حيث امتلأت المكتبات، بل الأسواق عامة، بمختلف المطبوعات، خصوصا ما كان منها يُلائم ذوق طبقات خاصة من الناس ممن يغلب على دوافعهم للمطالعة قتل الوقت، بما يثير مختلف الأحاسيس.

وكثير من تلك المطبوعات لا يقف ضررها عند تضييع الوقت بما لا طائل تحته، والوقت أثمن ما في حياة المرء، بل منها ما يُفسد الذوق، ويضعف ملكة الإبانة والإفصاح عن مختلف الآراء بأسلوب عربي قويم، وعلى ذوق الكاتب وسلامة أسلوبه وسمو أفكاره تقوم منزلته في دنيا الأدب، ويحتل المكان الملائم له.

ولئن أغُرتِ الكتبُ الحديثة بأساليبها الجذابة، التي لا تجهد الفكر إجهادا يدفع القارئ إلى السأم من المطالعة، في الوقت التي اتخذ منها وسيلة للراحة وإمتاعا للنفس، بما يثير لها البهجة، فإن في المؤلفات القديمة ما لا يقل أثرا في هذه الناحية من تلك الكتب، مع امتيازها بإمداد القارئ بما يربي في نفسه ملكة الذوق السليم، واستقامة الأسلوب، من سلاسة وغوص في أعماق النفس، لإثارة عواطفها.

وخُذْ - مثلا - مؤلفات الجاحظ، فمن ذا الذي يروض نفسه من القراء على التمعن في قراءتها، ثم يقبل على مطالعة كتابه «البخلاء»، ولا يدرك بعد ذلك ما قيل عن تلك المؤلفات من أنها تعلم العقل أولا والأدب ثانيا.

وعندما أسند إليَّ العمل، لوضع مناهج الدراسة في أول معهد أنشئ في مدينة الرياض، ثم في كليتي اللغة العربية والعلوم الشرعية، التابعتين له، كان مما اخترته للمطالعة هذا الكتاب، حتى زار كلية اللغة العربية وكنت مديرها الشيخ محمد حامد الفقي، فقال للشيخ محمد بن ابراهيم - رحمهما الله: كيف تدرس كتب الجاحظ المعتزلي؟! فاستبدل كتاب «فتح المجيد شرح كتاب التوحيد» بكتاب «البخلاء» في دروس المطالعة!!، وكان الشيخ حامد قد طبع كتاب «الفتح» تلك الأيام.

وفي عشر الستين من هذا القرن كنا أربعة إخوة - وقد نزيد -: الشيخ محمد الحسن الضبيب والشيخ عبدالله الخياط والأستاذ أحمد علي أسدالله، وأنا رابعهم!!، وكنا كثيرا ما يحلو لنا أن نذهب مساء الجمعة إلى قهوة في أعلى مكة، تدعى قهوة «عصمان»، فنمضي الليلة بمسامرة كتاب «الأغاني»، وقد يتحفنا الأستاذ أحمد علي ببعض مضامين الكتب أو الصحف الحديثة، ولكننا لا نلبث أن نعود لذلك الكتاب، مندفعين بنهم وشدة رغبة في الاستماع إلى ما يقرأه أحدنا منه، ولا أخال أحدا طالع كتاب «الأغاني» مطالعة تعمق واستفادة يستغرب ما ذكره أمير البيان، الأمير شكيب أرسلان، من أنه قرأه نحو أربعين مرة.

وفي كتاب «تاريخ الرسل والملوك» لابن جرير الطبري من رائع الأسلوب ما يستهوي القارئ المستفيد، خصوصا ما يتعلق منه بالدولتين الأموية والعباسية، من قصص وأشعار وأخبار منوعة.

أما مجاميع الشعر العربي ككتابي «الحماسة» لأبي تمام والبحتري، و«المفضليات» و«الأصمعيات» و«جمهرة أشعار الأدب»، وما حواه كتاب «الأمالي» للقالي و«الكامل» للمبرد، ومؤلفات ابن قتيبة وأمثالها من مؤلفات أئمة الأدب واللغة من أهل القرن الثالث الهجري وما قبله، فقلّ أن تجد أديبا مبرزا لم يستمد منها أنفس ثروة لغوية وفكرية.

ولمشاهير الكتاب من المتأخرين مؤلفات بلغت الذروة في وضوح الأسلوب وإمتاع الذهن، وأذكر أنني أكملت قراءة كتاب «رحلتي إلى الحجاز» للمازني في مجلس واحد، ثم صرت أعاود قراءته في كثير من الأوقات، للترويح عن نفسي عندما يدركها السأم من البحث والكتابة، ومثل ذلك في الإمتاع الجزء الأول من كتاب «الأيام» لطه حسين و«عامان في عمان» و«ما رأيت وما سمعت» للزركلي و«في منزل الوحي» لمحمد حسين هيكل، ومختارات الزيات صاحب مجلة «الرسالة».

لا أريد - مما تقدم - أن أتحجر عن القارئ واسعا، ولكنني أعبر عما أراه من الوسائل التي تمد إنتاجنا الأدبي بمقومات من الأصالة والقوة،

وكان الأجدر بي أن أقول: هَاؤُمُ اقْرَؤوا كِتَابِيَهْ، ولكنني وقفت موقف ذلك الأديب الذي حاول أن يستر جهله بظرفه، حين قيل له: ما أكثر نقدك للشعر، فلماذا لا تسمعنا شيئا من شعرك؟! فأجاب: أنا كالمِسَنِّ، يَشْحَذُ ولا يقطع!!.