لا تقولي إنه رد إلى الطفولة بعد أن قطع مراحل الصبا والشباب والكهولة ولم يكد يخطو في مرحلة الشيخوخة إلا خطى قصارا، ولكن قولي يا سيدتي إنه لم يخرج قط من طور الطفولة ولم يكد يعرف من الأطوار الأخرى التي يعرفها الناس، والتي ذكرتها آنفاً شيئا ما. فإنك إن قلت ذلك كان قولك أدنى إلى الحق وكان رأيك أدنى إلى الصواب، واضحكي ما شئت أن تضحكي فلست أكره لك الجذل والابتهاج، ولكن الإنكار برفع الرأس وهز الكتفين لا يغير من الحق شيئا، كما أن الإغراق في الضحك حتى تنهل الدموع من عينيك الجميلتين على خديك الأسيلين لن يحول الخطأ إلى صواب.

فأنت مخطئة يا سيدتي حين تظنين أنه رد إلى الطفولة قبل أن يبلغ الستين أو قبل أن يبلغ أرذل العمر، وصاحبنا بعيد كل البعد عن أرذل العمر. فالذين يغالون في تقدير سنه يقولون إنه قد قارب الستين، والذين يقتصدون في ذلك يقولون إنه لم يكد يتجاوز نصف القرن. أما هو فيخفي سنه ولعله لا يعرف من أمرها شيئا فقليل من الأطفال، من يعرفون سنهم.

وأنا أعلم أن الجيل الجديد قد أخذ يقلد أجيال الغرب في الاحتفال بأعياد الميلاد. وأخذ الأطفال والصبية يعرفون أسنانهم في هذه الأيام بحكم هذا التقليد، ولكن صاحبنا ليس من صبية الجيل الجديد، وإنما هو من صبية جيل آخر قد مضى ولم يكن الناس يعرفون فيه إلا مولد النبي وموالد الأولياء الصالحين، وميلاد الخديوي السابق. فأما عامة الناس فكانوا يجهلون الأيام التي ولدوا فيها فضلا عن أن يذكروها ذكرا منظما، وأن يحتفلوا بها في كل عام. وصاحبنا لم يولد في القاهرة ولا في الإسكندرية ولا في مدينة من هذه المدن التي يشتد فيها الاتصال بالأوروبيين، ويسهل فيها تبادل السنن والعادات. بل هو لم يولد في مدينة من مدن الأقاليم التي كان يكثر فيها اليونان الذين يشتغلون بالتجارة ويلم بها الموظفون من الإنجليز، أيام كان الموظفون من الإنجليز يطوفون في المدن ليتعهدوا شؤون الإدارة والري والتعليم، وإنما ولد صاحبنا في قرية صغيرة يسيرة من قرى الريف، ولا يكاد سكانها يتجاوزون بضع عشرة مئات، ولا تكاد هي تمتاز عن أمثالها من قرى الريف المصري في أواخر القرن الماضي، حين كان الحديث عن القاهرة والإسكندرية يملأ النفوس روعة وإعجابا كأنه الحديث عن الأساطير، وحين كانت المدن في الأقاليم لا تبلغ إلا على ظهور الإبل أو على ظهور الحمير، وحين كان الناس في القرى لا يحفلون بتسجيل أبنائهم وبناتهم، حين يولدون وإنما كانوا يتركون ذلك للداية تبلغه أو لا تبلغه إلى الحكومة تذكره مرة وتنساه مرة أخرى، تهتم له مرة وتعرض عنه مرة أخرى. فليس غريبا أن يجهل صاحبنا سنه وليس غريبا أن يجهل الناس معه هذه السن.

وأنت تنكرين أن يجتمع على الرجل الواحد هذان الشيآن المتناقضان، فيكون له جسم الشيخ وتكون له كل الخصائص الظاهرة التي يمتاز بها الشيوخ، ثم يكون مع ذلك طفلا لم يمر بأطوار الصبا والشباب والكهولة. وهذا غريب من غير شك، ولكن من الذي قال إن الغرائب لا توجد في هذه الحياة، ومن الذي يستطيع أن ينكر أن من الناس من تنمو أجسادهم نموا مطردا مألوفا وتختلف عليها الأطوار المعروفة التي يمر الناس بها في حياتهم، ولكن نفوسهم تبقى مع ذلك محتفظة بطورها الأول، قد انتهت إلى حد من النمو لم تستطع أن تتجاوزه إلى غيره من الأطوار.

وليس من شك في أن جسم صاحبنا قد نما وتطور كما ترين، فعليه من مظاهر الشيخوخة هذا الشعر الذي وخطه شيب، وهذه التجاعيد الأخرى التي تمتد حول أنفه من يمين وشمال، وهاتان العينان اللتان لا تنفرج عنهما الجفون إلا في شيء من الجهد، حتى يخيل إلى من يراه وقد أغمض جفنيه وتحدث أو تحرك أنه إنسان يحيا من وراء ستار، وهاتان الشفتان المنفرجتان اللتان لا تجتمعان إلا في شيء من العناء، سواء تكلم صاحبنا أو لبث صامتا، وهذا التهدل والترهل في وجهه الضخم وجسمه الذي يريد الشحم أن يكسوه فلا يستطيع، وهذه الحركات البطيئة المتكسرة والمتعسرة التي تخيل إلى من يراها أنها تصدر عن مجموعة عصبية قد شملها الفتور وأخذ يشع فيها الفناء، وهذا الصوت المحطم الذي لا يكاد السامع يسمعه حتى يستحضر إناء من الزجاج وإناء من الفخار قد أصابه شق يسير، فهو لا يرسل الصوت إذا مس إلا حدثنا بهذا الانحطام، وهذا التنفس السريع الذي يتبع بعضه بعضا في سير أناة، كأنه تنفس المكدود المجهود والذي يسمعه القريب من مصدره والبعيد عنه كأنه يخرج من أنف قد كثرت فيه الأعشاب فهو لا ينفذ من بينها إلا نفوذا عسيرا.

كل هذه مظاهر تدل على أن صاحبنا قد كان طفلا وصبياً وكهلاً، وهو الآن شيخ يخضع لما يخضع له الشيوخ من أعراض الضعف والفناء، ولكن التحدث إليه والاستماع منه والأخذ معه في فنون الحوار كل ذلك يصور لنا صبياً كسلا لم يتجاوز طور الصبا.

فهذا هو الذي قد خيل يا سيدتي إنه رد إلى الطفولة قبل الأوان، ومصدر هذا أنك لم تعرفيه إلا منذ وقت قصير. أما أنا فقد عرفته منذ أعوام طوال لا أعدها لك لأني لست في حاجة إلى أن تعرفي عددها. ولكني عرفته حين كنت شاغباً وحين كان جسمه في طور الشباب. ثم عرفته حين تقدمت بنا السن وحين اختلفت علينا ظروف الحياة وتجاربها وحين عرضت لنا المشكلات والخطوب، وأنا أراه الآن فلا أنكر منه شيئا لأني عرفته دائما في هذه الحال التي ترينها، ولأني ضحكت منه دائما مع أترابنا كما تضحكين أنت منه الآن، ولأني قلت فيه دائما لأترابنا وسمعت فيه دائما من أترابنا هذه الجملة: ما زال فلان طفلا ويظهر أن سيظل طفلا مهما تقدمت به السن ومهما تختلف عليه أطوار الحياة.