أحداث 67 و71 لم تكن وليدة يومها وإنما كانت حصيلة عادلة لسنوات العذاب السابقة عليها. وهي السنوات التي بلورت مجموعتين من الظواهر السلبية والإيجابية في حياتنا الثقافية على النحو التالي:

كانت الظاهرة الإيجابية الأولى هي الازدهار النسبي لأنشطة التعبير غير المباشرة كالآداب والفنون.. وهو ازدهار نسبي للغاية إذا قسناه بما يمكن أن تؤول إليه أمورنا الثقافية في مناخ صحي، وإذا قسناه بالإنتاج الفعلي والذي لم ير النور. وهو ازدهار نسبي أيضا إذا قسناه - عدلا وإنصافا - بالمعيار التاريخي، فقد كان هذا الازدهار ثمرة دانية القطوف في الأربعينات، أتاحت لها تناقضات النموذج الجديد أن تؤرخ لازدهارها بعد 1952. إن معركة النقد الجديد على سبيل المثال مع العقاد وطه حسين لم تكن في واقع الأمر معركة الحياة للجديد والموت للقديم، ذلك أن الفكر الرئيسي للعقاد وطه حسين كان قد توقف قبل نهاية الحرب الثانية، وكان الفكر الجديد قد ولد طيلة الأربعينات.

أما معركة مندور مع رشاد رشدي فقد أتت بعد المعركة الأولى بحوالي عشر سنوات، بعد تطورات اجتماعية هامة على الصعيد الوطني شاعت خلالها الأفكار المحورية للنظرية الواقعية في الأدب. وكان نجيب محفوظ قد استنفد أبعاد الرواية الاجتماعية قبل 1952، وبالرغم من أن الشرقاوي ويوسف إدريس قد نشرا «الأرض» و«أرخص ليالي» عام 1954 إلا أن هذه الأعمال كانت قد اكتملت قبل هذا التاريخ.

ولكن ذلك كله لا ينفي واقع الحال وهو أن النموذج الجديد لحركة 23 يوليو على طول مسيرتها قد أتاح ازدهارا نسبيا ومحدودا لأنشطة التعبير غير المباشر، وفي مقدمتها المسرح والشعر والفنون التشكيلية.

كانت الظاهرة الإيجابية الثانية هي قيام المؤسسات الثقافية المتطورة كالمجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية ووزارة الثقافة والمعاهد الفنية المختلفة والقطاع العام في النشر والمسرح والسينما. ولقد تعرضت هذه المؤسسات لموجات عاتية من الجزر الديموقراطي العنيف، حتى أن بعضها أصبح مجرد شكل بلا مضمون، والبعض الآخر اعتلت مواقع السلطة منه قيادات رجعية وبيروقراطية.. ولكن مجرد قيام هذه المؤسسات كان إنجازا بالغ الأهمية من جانب النظام الجديد.

وكانت الظاهرة السلبية الأولى هي المونولوجية في التفكير، فحيث يسبق الحدث الفكر يتخذ الحدث في صيغته قرارا علويا يصبح هو الفكر، ويتحول الكتاب - ولا أقول المفكرون - إلى شراح عظام. وعلى ذلك ينتفي الفكر كتجاوز عقلي للحدث وكبادرة واعية مستقلة عن القرار وكنشاط خلاق وظيفته أبعد ما تكون عن إعادة صياغة الحدث، القرار في أسلوب شائق جذاب يشرح ويبرر. بانتفاء الحوار ينتفي الفكر والمفكر ويولد المنولوج الجمعي بقيادة أوركسترا تجيد عزف النوتة المكتوبة سلفا، وما عليها إلا المران والتدريب فالبراعة والمهارة المكتسبة. تلك كانت حال الكتابات المصرية في ميدان الفكر السياسي طيلة الفترة الماضية باستثناءات نادرة.

ولذلك انعدم أو كاد ينعدم الإبداع الفكري، وأمست عبقرية الكاتب هي مقدرته على اللف والدوران إذا كان يقول شيئا ذا قيمة، وأن ينوع في ألوان الماكياج وأشكال الأقنعة إذا كان يردد ما تقوله الجهات والمؤسسات. بانتفاء العقل أيضا تنتفي المخيلة والمقدرة على الحلم، كما تنتفي المسافة بين الكاتب وما يحيط به ويتوحد بالأشياء فيما يشبه الحلو.. وهذا ما قصدت به من قبل أن الكاتب تحول إلى صدى ضمن أصداء لصوت واحد، لا صوت بين أصوات من بينها صاحب الصوت الأعلى. وبانتفاء الحلم من حياة البشر، والمفكر في طليعتهم، تنعدم الفوارق بينه وبين بقية الكائنات غير المفكرة، غير العاقلة، غير الحالمة. ومن نتيجة ذلك الجدب المأساوي البشع أن استوطنت الشيزوفرينيا الغالبية الساحقة من الكتاب، وتمزقت أوصال الثقة بينهم وبين قرائهم، لذلك خلت هذه الفترة خلوا شبه تام من أي إنجاز فكري ذي وزن في مجال الدراسات الإنسانية.

وكانت الظاهرة السلبية الثانية هي الديماجوجية التي صاحبت تحول الثقافة إلى دعاية لا تستند إلى فلسفات متكاملة أو أفكار متسقة. وإنما دعاية ذيلية للأحداث والقرارات مهما تضاربت وتناقضت.. وهو الأمر الذي حول قطاعا عريضا من المثقفين إلى أجهزة إرسال آلية، وهو أيضا الأمر الذي حول جماهير الثقافة إلى أجهزة استقبال سلبية، شاعت في صفوف منها البلبلة، وفي صفوف أخرى اللامبالاة.