من أهم المنجزات العلمية في الحضارة العربية الإسلامية، علم النحو الذي دار حول نشأته وأهداف تأسيسه كثير من الجدل، ولعل أغرب ما قيل عن علم النحو، أنه مشروع تعليمي نهض به مجموعة من الأعاجم لخدمة أبناء جلدتهم من ذوي الأصول الأعجمية، لمساعدتهم على تعلم اللغة العربية، أي أن الدافع من وراء تأسيسه تعليمي صرف، فأخذوا يتعاملون مع كتب النحو وكأنها كتب مدرسية (textbook ) لتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها. وهذا الفهم السطحي لحقيقة علم النحو، مع كامل التقدير والاحترام، يعتقد به كثيرون منهم أساتذة جامعات في أقسام اللغة العربية وآدابها، فأصبح جل اهتمامهم كيف يبسطون تدريس النحو أو يتخلون عن تدريسه كلية، لأن اللغة تتطور كما يرددون دائما. وهناك من يشعرك أنه لم يتعلم في كامل دراسته في علوم اللغة إلا أن اللغة تتطور وكأنه «جاب الديب من ديله» كما يقول إخواننا المصريون.

اللغة طبعا تتطور لا شك، وهذه معلومة ليست جديدة، وبسبب عامل التطور اللغوي في أي لغة بزغت فكرة تأسيس علم النحو، ليس لتعليم الأعاجم اللغة العربية، أو لأن سيبويه تعاطف مع الأعاجم، فقرر أن يؤلف كتابا مدرسيا يساعدهم على تعلم اللغة كي لا يعيشوا غربة لسانية في مجتمعهم العربي الجديد، أو لأن جماعة النحويين خافوا على اللغة العربية من لحن الأعاجم وعجمتهم الطاغية، فكان علم النحو المنقذ للغة من عبث الأعاجم للحفاظ على كيان اللغة.

مشروع علم النحو أكبر من مجرد مشروع تعليمي، ولم تكن العنصرية اللسانية دافعا من دوافع تأسيسه، فعلم النحو جزء لا يتجزأ من مشروع ثقافي هائل يرنو للحفاظ على الخطاب القرآني وجعله مفهوما على الدوام، وحتى يكون مفهوما، فإن الثقافة المكونة لهذا الخطاب يجب أن تعيش عبر القرون القادمة، فعلم النحو إن كان ذا صبغة إنسانية لأن القرآن الكريم خطاب موجه لكل البشر بمختلف أجناسهم وأعراقهم، ولكنه لا يخلو من خصوصيات الفترة التي ينتمي إليها والحضارة التي تنتهي إليه، فهو عربي في ألفاظه وعباراته وفي دلالاته ومعانيه، وعربي في أسلوبه وخطابه وتشريعه وفي قصصه وأمثاله. واللغة بوصفها واقعا ثقافيا معقدا جدا يتطلب فهمها استيعاب الثقافة التي عاشت في أحضانها، فاللغة تهتم بكل وسائل التفكير الممكنة التي بواسطتها يرسم الإنسان خبراته في العالم، ولا يمكن فهم الحياة الإنسانية لمجتمع ما إذا لم يكن هناك وسيط لغوي، ولا يمكن فهم الوسيط اللغوي إلا بفهم قواعده.

الخطاب القرآني يعد تجربة تاريخية لأن الوحي نزل في الماضي والسنة النبوية المفسرة لهذا الوحي جمعت في الماضي أيضا، وكل تجربة تاريخية هي في الأصل تجربة لسانية تمثل ذاكرة الإنسانية الجماعية. والنص القرآني عبارة عن نص تم تثبيته بواسطة الكتابة والتدوين. وهذا النص مرتبط بتشريع سماوي ووحي ثابت وصالح لكل زمان ومكان، يقول الراغب الأصفهاني: «فألفاظ القرآن هي لب كلام العرب وزبدته وواسطته وكرائمه، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم وحكمهم، وإليها مفزع حذاق الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم»، وفهم التشريع السماوي يتطلب منا فهم النصوص، وفهم النصوص يتطلب فهم اللغة والقواعد، أي أن التشريعات السماوية يمكن قراءتها وفهمها على منوال نصوص يتوجب علينا فهم سياقها التداولي وبالتالي فهم ثقافتها واستيعابها، ولذا كانت العروبة ثقافة ولسانا وليست عرقاً ونسباً، ونستطيع القول إن سيبويه كان عربي اللسان والثقافة رغم أصوله الفارسية.

إن الخصوصيات النحوية والصرفية لكل لغة تلعب أدوارا كبيرة في فهم دلالات الألفاظ والجمل، والقواعد النحوية تساعد على فك شيفرة الشبكة المفهومية المكونة للغة، وبالتالي فهم النسق المكون للخطاب وخلفياته وأبعاده، وبالتالي استيعاب ثقافته والانتماء لها، وهنا مربط الفرس فالانتماء للثقافة لا يكون إلا من بوابة اللغة ولا غير، واللغة كيان مترامي الأطراف لا يمكن الإحاطة به إلا عن طريق الإمساك بكل خصائص اللغة.