في رواية «الطريق إلى رصيف ويغان» للكاتب الإنجليزي جورج أورويل، التي كانت أشبه بتقرير عن حياة الطبقة العاملة في المدن الصناعية بإنجلترا، يصور فيها معاناة العمال في المناجم ومعامل الفحم. يصف المترجم الرواية بقوله: «بتكليف من نادي الكتاب اليساري، حمل أورويل قلمه وذهب إلى الشمال الإنجليزي، حيث المعامل ومناجم الفحم الكثيرة، وأقام في بلدة ويغان. سكن في بيت للإيجار مع أربعة عمال وأصحاب البيت. نزل إلى أعماق المناجم، ليكتب بصدق وعن تجربة عما يكابده العمال من مصاعب وأخطار في مشهد جحيمي بحرارته وسواده وتلوث هوائه، بالإضافة إلى خطورة الانهيارات وانفجارات الغاز».

تصور الرواية ظروف الناس في مرحلة الحداثة الأوروبية، ومرحلة ما بعد إلغاء نظام الرق، التي كان يفترض بها أنها نتيجة أفكار وفلسفات تنويرية عظيمة، ولكن الواقع في المدن الأوروبية لم يكن بالصورة الزاهية في تلك الحقبة الزمنية التي شهدت تحولات اجتماعية واقتصادية كبرى. ففي الرواية، وصف لأحوال البؤس والفقر والمساكن الهشة التي تسكنها الطبقة العاملة، والأحوال المأساوية التي تعرضوا لها، والتي لا تختلف كثيرا عن أحوال الناس في العصور القديمة، حيث كانت المصانع مظلمة وقذرة، وكان الأطفال يعملون جنبا إلى جنب مع النساء والرجال في المناجم والمصانع.

فهل كان لفلسفات الحداثة وما قبلها هذا الأثر العميق في التأثير على الشعوب؟، وهل كانت عصور الاستنارة واقع عاشته الشعوب الغربية بالفعل أم أن قصص عصور العقلانية والاستنارة ليست إلا قصصا متخيلة لا حقيقة لها، وليس لها تأثير حقيقي على أرض الواقع؟. لم يكن التغيير مدفوعا بواسطة أفكار وفلسفات إنسانية، كما تصوره لنا كتب تاريخ الفلسفة، ففي عصر اكتشاف الآلة البخارية، وانتقال الناس من الأرياف إلى المدن، أحدثت الرأسمالية الناشئة منعطفا في العلاقات بين البشر على نحو بالغ القبح، حيث بدأت الرأسمالية كنظام للإنتاج، تدفعه رغبة شرهة للربح، وليس الحس الإنساني المشترك أو التأثر بأفكار فولتير وجان جاك روسو المزعومة.

ولو تتبعنا التاريخ البشري، وقدمنا تاريخا افتراضيا لمسيرة البشرية عبر العصور، لوجدنا أن البشرية تدرجت عبر مراحل، كان الاختلاف في نمط الاقتصاد هو القاسم المشترك بينها، بداية من مرحلة الصيد وتجميع الثمار، ثم الرعي والغزو، فالزراعة، وأخيرا دخلت البشرية مرحلة المجتمعات الصناعية، وكل مرحلة لها تقاليدها وأعرافها الخاصة، ومن خلال كل مرحلة تتحدد مكانة أفراد المجتمع، وتتشكل الفوارق الطبقية بين الأفراد، فمكانة المرأة في مجتمع الصيد ليست كمكانتها في مجتمع الزراعة، وليست كمكانتها في عصر المجتمعات الصناعية، حيث وضعت المصانع نهاية لاستقلال أفراد الأسرة الذين يعملون معا في المنزل ضمن دائرة اقتصاد ذاتي الإنتاج.

لكل نظام اقتصادي تقسيم العمل الخاص به، والمجتمعات الصناعية تتسم باتساع السوق، فالسوق في المدينة ضخم ومعقد، لذلك فهو يتطلب يدا عاملة لا يمكن أن يوفرها تقسيم العمل في المجتمع الزراعي، لذا أخذت اليد الخفية للسوق - كما يصفها آدم سميث - على عاتقها تفكيك كل التقاليد والعلاقات الأسرية القديمة، وتحرير اليد العاملة، لنقلها من الأرياف إلى المدن. ليس فقط تحريرها جسديا، بل وتحريرها من الثقافة المهيمنة والتقاليد والأعراف الراسخة.

يقف السوق ويده الخفية وراء التغيير التدريجي للمجتمعات وثقافاتها وتقاليدها، وكل الأحداث والتحولات بأوروبا في حقبة ما يعرف بـ«عصور التنوير»، حيث لم يكن دافعها إنسانيا أو تنويريا بالدرجة الأولى بقدر ما كان يقف خلفها الطمع، كما تقول المؤرخة الأمريكية جويس أبلبي: «غالبا ما تنسب للرأسمالية دوافع شخصية بغيضة، وسمات غير محمودة كالطمع وعدم الاكتراث لمعاناة الآخرين، على الرغم من أن الطمع قديم قدم شريعة حمورابي»، وكما قال سميث: «يمكن القول إن الرأسمالية أول نظام اقتصادي يعتمد على الطمع. على الأقل رغبة من الفرد في تحسين وضعه».