عندما يتبدى للإنسان قول أو مسألة علمية، سواء كانت عقدية أو فقهية أو تاريخية أو فلسفية، فإن مثارات الإشكاليات في تلك المسائل تدور بين الإبهام والإجمال، والوضوح الظاهر والظن الراجح والعلم اليقيني، وهذه مراتب القوة في البراهين والأدلة وهي من مكامن وأسرار مستويات خلافات الرؤى والتصورات لدى العقول الإنسانية، وتلك المثارات تكمن حقيقتها في الخروج من الإبهام الذي يُحيط بكثير من المسائل الفقهية والعقدية والفلسفية من حيث إدراك حقائقها، والإحاطة بكل جزئياتها عن طريق وسائل تحقيق المعرفة، سواء الاستنباطية ام الاستقرائية، بيد أن ذلك الإبهام تحيط به تصورات العقول الإنسانية المختلفة في مدركاتها ومعارفها، ومنطلقات وأسس احتجاجاتها فيما تنزع إليه، من مذاهب وآراء في شتى مجالاتها الكونية، فيتصور عقل الإنسان البسيط أن تلك المثارات المبهمة بأنها عقبة كؤد، ولا يكاد يتخيل أنه سوف يتخطاها فيقف حائراً تائهاً محروماً من لذات معارف أسرار الكون المحيطة ببيئته ومجتمعه وحياته، فيكون تابعاً في كل شيء، وهذا العقل هو من إشكالياتنا المعاصرة التي تكثر في المجتمعات، ثم يأتي عقل الإنسان المنتصف في التعليم فيتصور أنه أمام أتفه وأبسط المسائل، فيعطي رأياً كلياً متصفاً باليقين فلا يكاد يخرج من تلك اليقينيات إلا عن طريق مسارين رئيسين وهما يقودان أغلب أهل الأرض، في واقعنا المعاصر سواءً كان هذا التطرف شرقيا أم غربيا أم شرق أوسطي، وهذان المساران أحدهما يكون مسار تطرف فكري يميل إلى محق وسحق كل التراث الماضي، وتحطيم كل ما أقامته حضارات قومه، وإما مسار تطرف يميني يجعل العالم ينقسم إلى قسمين الآخر منهما هو الخارج عن كل شرائع التدين، سواء كانت سماوية أم أرضية، ويتخذ حكماً كلياً مطلقاً لا إبهام فيه أن هذا الآخر مستحق للإنهاء من الوجود الزماني والمكاني، فلا يبقى إلا من كان يحمل الصفة العقلية اليمينة المتطرفة، التي تقف أمام كل تطور وتكسر كل محاولات التقدم في نفوسٍ عطشى للخروج من أزمة تلك المثارات المبهمة، التي أقلقت نفوساً كانت تبحث عن نسائم العقل الذي يُقدر ويُعظم مفهوم الإشكالات الفكرية ومساحات الإبهامات، التي تخلق التوسعات العقلية للوصول إلى المشترك العقلي، فيما تراه من فضاءات تم خلقها من ذلك الإنسان المشارك لها في الوجود الزماني والمكاني، إلا أنه كان ولايزال مختلفاً اختلافا كليا ثقافة وفكرا وفلسفة حياة، وذلك العقل الذي يُعظم مفهوم الإشكاليات الفكرية هو ذلك العقل الذي أدرك أن العقول، لا يمكن أن تصل إلى يقينيات فكرية إلا في حدود ضيقة تتصف بالإيمان بالغيب الموحى به من الخالق، وذلك الإيمان هو على سبيل الإجمال، ولا يمكن أن يتم البحث في حقائقه لأن الوصول إلى تلك الحقائق يصطدم باليقينيات، التي توترات عبر القرون أن تلك الأمور الغيبية لا يُجدى معها إلا الإيمان المطلق اليقيني، وأنها وحي غيبي لا يمكن الوصول إليه، أما ما عدا ذلك فيما لا تكون حقيقته غيبية وإسناد إثباتها ليس وحياً يقينياً مطلقاً، فإن العقل المتصف بالانفتاح على مثارات الاحتمالات وتوسيع مسارات المنطلقات الظنية يقبل كل وجوه مثارات الإبهام فيها، ويؤسس لها بنسبية قبولها أو ردها وذلك أن إسقاط اليقينيات على تلك الرؤى والتصورات والمسائل، لا يمكن الوصول إليه، وهذا التأسيس الفكري لفكرة قبول مثارات الإبهام في الرؤى والتصورات يوسع مدارك البحوث، سواء الفقهية أو العقدية أو الاجتماعية أو الفلسفية، وفي كل مسائل النزاعات والإشكاليات الفكرية، التي تنشأ من اختلافات فهوم العقول الإنسانية المتصفة بأنها مالكة علوم وأسس وقواعد البحث العلمي، أي أنها تملك علوم الآلة في فهم ما يُقرأ أو يُكتب من مسائل في جميع نواحي الحياة. أما ماعدا ذلك من فهوم العقول البسيطة والمنتصفة التعليم، فلا يحق لها أن تتبني رأياً أو تطلق حكماً إلا أن تكون مقلدة لأهل العلم والعلماء، لأن إشكاليتنا الفكرية المعاصرة تكمن في الخلل الفكري والمنهجي، الذي جعل تلك العقول البسيطة والمنتصفة التعليم، لها منابر إعلامية وتقود الملايين من البشر، ولأضرب لتلك الإشكالية بمثال يتضح به أننا في زمن قد أدرك فيه المالك لعلوم الآلة، أنه منبوذ في مجتمع أفراده يكادون يجمعون على امتلاك الحقائق في كل شئون نواحي الحياة، وذلك بيقينيات متوهمة فينزلون المعدوم منزلة الموجود، بلا أسس ولا براهين و بينات يقينة وينزلون الموجود منزلة المعدوم بجهل مركب، أصبح وأمسى ذلك الجهل مسرحاً لأحداث الحياة المعاصرة، التي نراها تتسارع بشتى مجالاتها وشئونها التي لم يعد الإنسان يفهم كثيرا مما يجري فيها، والمثال فكرته بسيطة يمكن أن يقبله طالب العلم والأكاديمي إذا كان ينطلق من إنسان قد أدرك أن المفعول به لا بد أن يكون منصوباً، وأن خبر كان يتوجب أن يكون منصوباً، و أن الأسماء التي تقع بعد حروف الجر يتوجب أن تكون مجرورة فهذه أسس علمية وقواعد نحوية ابتدائية، فإذا ما جهلها هذا الإنسان فلا يحق له أن يُدلي بدلوه برأي فقهي أو عقدي أو فلسفي، أو فكري يتصل بالنصوص الدينية أو النظامية القانونية، فإذا ما كان هذا الإنسان يتصف بما سبق فلا يُقبل منه الاجتهاد في اختيار قول فقهي أو عقدي أو فلسفي، ثم يُرجحه ويجادل عنه، فهذا الإنسان في اصطلاح أهل العلم من الأصوليين والفقهاء يُعطى وصف المقلد، وقد تم رفع التكليف عنه في أن يكون مجتهداً بالنص اليقيني «وماكنا معذبين حتى نبعث رسولاً» إلا أن هذا الموغل في الجهل يأبي إلا أن يكون مكلفاً بالاجتهاد، والبحث والتقصي وقد كفاه أهل الاجتهاد مؤونة البحث والاختيار والترجيح، ويجهل هذا الإنسان أن الترجيح والتعارض هما بابان في علم أصول الفقه يتم بحثهما بحثا علمياً، وقد وضع لها علماء الأصول أسساً في مفهوم التعارض والترجيح، وقد جعلوا طرقاً لكيفية رفع التعارض بين الأدلة، كذلك أسسوا مسارات كثيرة لمعرفة كيفية الترجيح بين الأدلة المتعارضة، وهذه الحالة من الجهل المركب تكون أعظم خطورةً، إذا ما كانت في المجالات المهنية والمتخصصة، التي يُفترض فيها أن تكون شريكة في رفع المستوى العلمي والثقافي لإنسان مجتمعنا، فلا أزال أجد كثيراً من مكاتب المحاماة المتخصصة، والتي ترفع المهنية والتخصص تدون في مذكراتها نصب الفاعل ورفع اسم إن وخبر كان، وهذه أخطاء تدون في المذكرات التي يتم تقديمها للقضاة في المحاكم بمختلف درجاتها واختصاصاتها، وليس لدي أدنى شك أن قضاة مجتمعنا من أفقه وأعلم الناس على الأقل في حدود مجتمعنا، وذلك لما يحملونه من علوم متخصصة و متأسسة على القواعد العلمية والأكاديمية، وخصوصاً قضاة محاكم الاستئناف وقضاة المحكمة العليا، فأظن أن التطور والتنمية لا يمكن أن يسير إلا بضبط الحركة الفكرية لجميع شئون الحياة وتمكين المختصين من قيادة منابر الفكر المختلفة، سواء في الإعلام أو المنتديات أو التجمعات الفكرية، لأن المختص هو من لديه القدرة في حل كل الإشكالات المبهمة، التي يحيلها أصحاب العقول البسيطة والمنتصفة التعليم إلى مجتمعاتنا، ومنابرنا الإعلامية والفكرية في جميع الوسائل.