فيما قبل رؤية 2030، تصدر المشهد الثقافي السعودي أدبيات تطرف وتزمت وتشدد متمثلة في بعض الفتاوى والكتابات غريبة المنبت والمنشأ على أبجديات البحث الشرعي وثقافته المتسامحة والمعتدلة، وهذا ناتج عن تشظي الفكر السلفي الذي عرف بصفة خاصة بتجنيب المجتمع الفتن، وتجنب كل ما يشق الصف في سبيل توحيد الوجهة والجهة، لضمان سلامة الفرد والمجتمع، وهذا التشظي جاء من تولي ثلة من السعوديين وكثير من المقيمين ذوي التوجهات الحزبية عملية خلخلة الأمن والسلم الاجتماعي عبر أفكار دخيلة أثرت وتؤثر على أمن البلد وأمانه.

والرغم من أن مجتمعنا يعيش ضمن منظومة من النظم والقوانين الاجتماعية الصارمة، فإن المعضلة والعقدة الجذرية تكمن في معاناة الطارئ على هذه مجتمعنا من الأفراد والأسر، وأوعية الأعمال ورؤوس الأموال الوافدة، من تلك الحزمة الهائلة من الأعراف والتقاليد المجتمعية التي ألبست لبوس الدين وقدسية التعاليم الشرعية حتى أضحت دينًا نوالي فيه ونعادي، وهذه العادات والأعراف منطلقة من أساس أخلاقي وقيمي يهدف في المقام الأول إلى المحافظة على النسق الأخلاقي المرتبط بالدين، والمنتج النهائي منه هو الالتزام بالرأي الديني السائد، باعتبار أن المجتمع السعودي مجتمع سلفي لم يتلوث بأفكار وافدة قد تحدث خروقات هائلة في رقعة التدين ومساحته أو هكذا يظن، وعلى مدى عقود، أطبقت هذه الأعراف والتقاليد التي صاغتها ظروف وأطراف عدة على حياة المجتمع السعودي، وأصبحت جزءًا من عاداته وتقاليده وقيمه وثقافته التلقائية، والتي يعاد إنتاجها من خلال نظام تعليمي وثقافي وإعلامي صارم، إلا إنه وعلى مدى هذه العقود الممتدة من تطبيق منظومة الفضيلة تلك في المجتمع السعودي فإن النتائج والمخرجات على الأرض تبدو متناقضة مع أهدافها الموضوعية، في بلد يوصف بأنه القلعة الحصينة للإسلام السلفي، فواقع التنمية الحضارية، والمعطيات الاجتماعية المتعلقة بأسلمة المجتمع أو «سلفنته» تقل بكثير عن الشعارات المرفوعة والأهداف والغايات الكبرى التي أنشئت من أجلها هذه النظم، والتي تهدف إلى نهضة المجتمع وتطوره مع الالتزام التام بالتعاليم الدينية والقوانين الشرعية، إلا أن كلا الهدفين لم يتحقق على أرض الواقع، فلم يصبح المجتمع مجتمعًا دينيًا ملتزمًا بتعاليمه وقوانينه إلا في إطار نسبي، ولم يحقق أي تنمية فعلية يعتد بها إذا ما قورن بالمجتمعات الأخرى، وكل ذلك بسبب عدم تجاوب المجتمع مع التنمية بما يتلاءم مع المتطلبات الحقيقية والواقعية لاستثمار الثروات الطبيعية والبشرية، والتي تتناقض مع بعض النظم والأعراف الضاغطة على المجتمع السعودي، وفي مقدمتها منظومة العفة والفضيلة والأخلاق والقيم الدينية -كما حددتها الثقافة المجتمعية في البلد- والتي تمت صياغتها وفقًا لرأي واحد واتجاه أوحد.

وفي ظل التغيرات الثقافية المتسارعة التي تشهدها المملكة اليوم على مختلف الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بفضل رؤية 2030، يصعب تحديد حزمة معينة من المعوقات تقف أمام مسألة الإصلاح الديني، وتجديد خطابه، ولعل إصلاح الخطاب والفعل الديني اليوم في السعودية تجاوز المرحلة الأصعب، ولكن تظل الظروف النفسية العامة للمجتمع الصحراوي، وإنسان الصحراء، والذي يتسم بالتعلق بالإرث والموروث العاداتي المغرق بالعاطفة، والمتسم بالتوجس من الجديد والغريب، خصوصًا بعد خفوت صوت عرّابي الخطاب الديني المتطرف، واندثار خطاب الإسلامويين إلا قليلًا.

إن انقياد الخطاب الديني ليواكب العصر، والحضارة ومنتجاتها، من الأفكار والقيم، هو الأساس الذي ينبغي أن يبنى عليه الإصلاح، حيث إن الإصلاح الديني في جوهره وفلسفته الأعمق يتمحور حول كيفية إيجاد السبل لغرس قيم الحضارة في مجتمع مسلم، يتعاطى بحرية مع الاقتصاد والسياسة والمعرفة بلا وجل أو خوف، ومسألة الإصلاح تعني تعديل الوضع الفقهي الراهن، وهذا يعني أن مسألة الإصلاح الديني لابد أن تمر عبر نقد الموروثات الدينية نفسها أولاً، وهنا يمكن أن نقول إن الإصلاح الديني، يكفل حزمة متكاملة من التحسينات، والتكميليات على حياة الفرد والأمة، يقود إلى العيش في ظل عدالة اجتماعية متوازنة، وسياسة تكافح الفساد، وتُعنى بتوسيع النمو الاقتصادي، وتعميقه ليتحول إلى تنمية شاملة، كما أن الإصلاح يمكن أن يقود إلى إعادة البناء الداخلي للتصورات والمفاهيم، وتفعيل آلية الاجتهاد، وخلق التصورات الصحيحة، وهو ما يعصم من التطرف والتطرف المضاد.

والسياسي السعودي -بحسب إستراتيجيته ومبادئه- ينطلق في الأساس من منطلقات شرعية، تتقاطع بشكل واسع وكبير مع «نظرية المصلحة» التي طرحها في نهاية القرن السادس الهجري الفقيه سليمان الطوفي الحنبلي، إذ إنه صاغ هذه النظرية الخلاَّقة التي تتيح للفكر والعقل المسلم التعاطي المرن مع الكثير من القضايا النظرية والتطبيقية في مجال المعاملات، ومجريات الحياة سياسةً واقتصادًا واجتماعًا وثقافةً، وصلب النظرية قائمٌ على تقديم المصلحة على النص في المعاملات، دون العبادات، إذ إن المصلحة دليل تشريع قائم بحد ذاته، ومستقل ما لم يُعارض بنص قطعي الدلالة، قطعي الثبوت، وينطلق الطوفي -رحمه الله- في بناء نظريته هذه من ثقة عالية بالعقل البشري، وأنه مستقل بمعرفة المصالح والمفاسد، وأن الله تعالى جعل لنا طريقًا إلى معرفة مصالحنا عادة فلا نتركه لأمر مبهم يحتمل أن يكون طريقًا إلى المصلحة أو لا يكون، إذ يرى «الطوفي» أن النصوص الشرعية متضمنة للمصالح، وأن الشريعة جاءت برعاية مصالح العباد جملة وتفصيلًا، لكنّه افترض في الوقت ذاته أنّ النّصوص قد تُعارض المصالح على نحو يتعذر معه الجمع، وعندها تُقدَّم المصلحة على النّص، إذ إن المصلحة أقوى، وأنه في غير دائرة العبادات فإن المصلحة تقدم على النص والإجماع إذا عارضتهما، والطوفي فرق بين العبادات التي لا يستقل العقل بها بدون النص، والمعاملات التي يرى أن العقل قادر على تمييز المصلحة فيها، والمصلحة دليل شرعي ومصدر تشريع فيها.

أخيرًا، يقول سمو ولي العهد في فهم عميق لروح الإسلام الذي ينطلق من روح العصر: «لا توجد مدرسة ثابتة، ولا يوجد شخص ثابت، والاجتهاد مستمر في أحكام القرآن».