كان لمقولة الوزير الصاحب ابن عباد الشهيرة «بضاعتنا ردت إلينا» دلالات ثقافية متعددة تعكس العلاقة الجدلية آنذاك بين المشرق والمغرب، وهي علاقة المركز بالأطراف، فتلك العبارة التي قالها عند تلقيه كتاب «العقد الفريد» لابن عبدربه الأندلسي تعكس أن حضارة المشرق التي كانت تلعب دور ثقافة المركز ذات الهيمنة مقابل ثقافة الأندلس التابعة التي مثلت ثقافة الأطراف الساعية نحو المركز والمنجذبة له. حيث لم يخرج كتاب العقد الفريد عن سياق الثقافة العربية الموجودة في العراق والشام والجزيرة العربية، فكل ما يحويه الكتاب من أخبار وطرائف وملح لم يخرج عن سياق الثقافة العربية في المشرق وما عهدوه في نسقهم الاجتماعي.

فقد كانت الحضارة العربية الإسلامية أو حضارة المشرق كما أطلق عليها، تمثل مركزًا للعالم ومصدرًا للعلم، حضارة لديها القوة المعرفية لنقل علومها وإبداعاتها من العربية لباقي اللغات، اللاتينية والعبرية على سبيل المثال لا الحصر، ولها أثر ثقافي طاغٍ على بقية الشعوب والقوميات، فالعولمة إرث تاريخي لم تكن وليد العصر الحديث، ولم تكن حكرًا على ثقافة دون الأخرى، والسؤال الذي يجب أن نطرحه باستمرار عند الحديث عن العولمة وتاريخها: لصالح من كانت العولمة؟ ولصالح من أصبحت اليوم؟

من خلال العلاقة بين المركز والأطراف، يتجدد سؤال الهوية باستمرار، ويبدأ الصراع الأزلي بين الأنا والآخر، وتعلن ثقافة الأطراف الحرب ضد المركز لمناهضته ومقاومته والنضال في سبيل الاستقلال عنه، حرب لا شك في مشروعيتها خشية الذوبان في الآخر صاحب الثقافة المهيمنة التي تقود دفة العولمة، وباسم العولمة تحاول أن تسحق مقاومة الإرادة الوطنية المستقلة وتهمشها وتزدريها في سبيل ابتلاعها، ولن يحصل ذلك دون عملية مثاقفة تصب في صالح ثقافة المركز، وتكون ثقافة الأطراف ضحية لها.

الثقافة تعبير عن روح العصر وتتشكل في إطار الوعي التاريخي للشعوب، ولها مسارات تاريخية تتشكل خلالها وفق ظروف تاريخية معينة تنقلها من ثقافة الطرف إلى المركز أو العكس، كما حدث مع الثقافة الأمريكية قديما في علاقتها مع الثقافة البريطانية الأم التي كانت ثقافة مركزية آنذاك، فهل الثقافة المهيمنة في أي عصر آمنت بالتعددية؟ في الواقع تطرح العولمة كثيرًا من الأسئلة حول تأثيرها وأثرها على الثقافات، وحتى لو اختلفت أدواتها في عملية الغزو والإلحاق بين اليوم والأمس، فإنها لا تزال تحمل نفس التحديات تجاه التعدديات والتسامح بين الثقافات.

نعم العولمة ظاهرة قديمة وليست وليدة اليوم، تناوبت الحضارات المختلفة على تسلم شارة قيادتها ما بين روما وقرطاجة وبين فارس واليونان وجاءت الحضارة العربية الإسلامية بعد ذلك لترث الإمبراطوريتين في الشرق والغرب وتمارس دورها التاريخي في نشر ثقافتها على الصعيد العالمي، وإن كانت العولمة اليوم تعتمد في انتشارها على التقنية المعلوماتية وسرعة وسائل الاتصالات والاعتماد على عامل الصورة وسرعة انتشارها عبر الأثير، لكنها لا تختلف عن أي ظاهرة عولمية عرفها التاريخ البشري حتى وإن تميزت بعامل التقدم العلمي.

نختم مقالنا بكلام في غاية الأهمية لعالم الاجتماع الأمريكي ريتشارد سينيت، يمثل من وجهة نظري شعارًا للعولمة في عصرنا الحديث، يقول فيه: «إن حالة تجانس وتماثل ثقافي نلمسها بوضوح في كل مكان، في العمارة الحديثة والثياب والوجبات السريعة والموسيقى الرائجة والفنادق، إنها قائمة عولمية لا تنتهي. جميع الأشخاص على الطريقة نفسها، هي وجهة نظر تبحث عن حيادية تجاه العالم، هي رغبة بتحييد الاختلاف وتدجينه، ناجمة عن قلق الاختلاف، الذي يتقاطع مع اقتصادات ثقافة الاستهلاك العالمية».