الجزء الذي نقبع به من العالم هو الأشد والأكثر حساسية، لعدة أسباب وارتباطات، المقدسات، الطاقة، المال، والمساحات الشاسعة، والقوى البشرية. ذلك دفع بهذه البقعة لأن تكون محط أنظار العالم، على كافة النواحي، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل حتى على مستوى أنظمة الحكم وكيف تُدار دول هذه المنطقة من العالم. تحتضن جمهوريات هشة، قلب ثقافتها الاستعمار، ودناءة بعض حكامها على مر العصور، والانقلابات العسكرية، والغدر والخيانة، وحتى عهدٍ قريب لم تهدأ الأنظمة الديمقراطية في عالمنا العربي.

تدحرجت يوماً ما كرة النار من تونس وحتى ليبيا ومصر وصولاً إلى اليمن والسودان وسوريا، وظهرت هي ومن كان يحكمها بمنظرٍ مُخزٍ أمام العالم بأسره. سقط من سقط، وعثر في جحورٍ على من عثر عليه، وانتهت أساطير وشعارات كبرى، وانكشف حينها بأن شعوب تلك الدول لم تكُن يوماً بحالة رضى عن الحاكم، الذي يحرص بأن يكون مشهد الحديد والنار حاضرا على الدوام.

وما بين تلك الدول، توجد بعض الدول ذات النظام السياسي المختلف، والتي طالما أُسقطت عليها ادعاءات التخلف والرجعية، وقُذفت بإرثها الثقافي والتاريخي، بينما كانت ولا تزال تعيش نهضةً في مختلف الأصعدة، واتخذت الاستثمار في الإنسان أحد أهم ركائز الثبات في مواجهة العواصف والمؤامرات القادمة من الشرق والغرب وشكّل ذلك امتداداً لها حتى يومنا هذا.

أتحدث اليوم عن الأنظمة الملكية في المنطقة والعالم العربي، كالمملكة العربية السعودية، والمملكة الأردنية الهاشمية، ومملكة المغرب، بالطبع سيكون للحديث عن بلادي نصيب الأسد، وهي التي لم تتعرض يوماً لا لاحتلال ولا استعمار، بل كانت طاهرةً خالصةً في الطهارة بُني إرثها وتاريخها بدماء وتضحيات الرجال.

إن الثبات الذي تعيشه المملكة العربية السعودية يعود لاستقرار بيت الحكم، وهو الأمر الذي تزداد منه دول الخليج برمتها وعاد عليها بالطمأنينة والتفرغ للتنمية والتطور، بل أزعم أن تلك الحالة السياسية كانت حائط الصد أمام عدد من مشاريع التخريب التي كانت تستهدف الخليج.

فقد وقف بوجه المشروع البعثي الذي حاول المقبور صدام حسين تنفيذه بحق منطقة الخليج للسيطرة على منابع النفط، والتفرد بالزعامة، سبقه جمال عبد الناصر صاحب المشروع الوحدوي العروبي، وهو الذي صد مشروع تنظيم القاعدة المدعوم من أجهزة استخبارات معروفة، كالإيرانية على سبيل الاستدلال، وهو الذي منع كرة النار القادمة من دويلات ما يسمى بـ«الربيع العربي» وهو بحقيقته وأهدافه خريف، من الوصول إلى الخليج بأسرة، وأحبط مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي رسمت ملامحه هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، وهو الذي كشف مخطط تنظيم الإخوان الدولي الرامي للسيطرة على العالم الإسلامي، في إطار المشروع المدعوم من دولٍ معروفة، على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية في حقبة أوباما السوداء.

ما دفعني للكتابة عن هذا الأمر، هو حجم ردود الأفعال الهائلة على ليلة اللقاء الذي أجراه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان مع الزميل المتألق عبد الله المديفر، إذ كانت الأنظار شاخصة بلا مبالغة حول ذلك الحوار. – كصحافي يحق لي أن أكون من حاسدي الحبيب المديفر على هذه الفرصة من الناحية المهنية - وكنت كذلك.

فمنصة تويتر تلك الليلة اشتعلت حول كمية المعلومات التي خرج ولي العهد لسردها لشعبه، إلا إنها تجاوزت شعبه، وبلغت حدوداً أكبر وأوسع من المتوقع، وشهدت عدد من الدول المحيطة أوسمة في تلك المنصة تتحدث عن أولاً: حضور ولي العهد وشخصيته، ثانياً: كمية المعلومات التي يكتنزها في ذهنه، ما كان سبباً في وصفه بأنه «وزيراً لكل وزارة».

وكان ملفتاً للانتباه أمنيات العديد بوجود ما يمكن أن يشبه ولي العهد في دولهم. لكن بالمحصلة ماذا يعني ذلك؟ يعني أن الشعوب المنطقة متعطشة لعدة أمور، كمواجهة الفساد المستشري والنزاهة، والحزم، والتخطيط، والتنفيذ، وتحويل الأماني المستحيلة إلى واقع ملموس. وذلك ما عمل على تحقيقه ولي العهد في المملكة. ويعني بالمقابل أن الإنسان في العالم العربي بات أكثر وعياً مما سبق، ولم تعد تنطلي عليه الشعارات والوعود الانتخابية التي عادةً ما تتبخر بعد مغادرة الناخب صندوق الاقتراع «الديمقراطي».

وفي نطاقٍ أوسع، ماذا قدم محمد بن سلمان للأنظمة الملكية في العالم العربي؟ أتصور حسب رأيي المتواضع، أنه أزال بعض الأفكار الضبابية والأوصاف الزائفة، كالتخلف والرجعية التي كانت تُلصق بتلك الدول، وعمد الغرب وبعض الأعراب على تكريسها، من خلال نموذج الحاكم الشاب العصري الذي قدمه سموه، والقائم على الطموح في التطوير والتحديث، من باب الإيمان بتعمير الأرض استناداً على الشغف، وهذا بالقطع يقف أمام حالة التعالي التي تتعامل وفقها بعض الديمقراطيات التي لا تملك أكثر من الشعارات والجعجعة، مع الأنظمة الملكية الثابتة الرصينة.

فالشخصية والحضور الذي يتمتع به ولي العهد «الملهم» لشعبه، بالتأكيد لم يكُن وليدةً للحظة أو الصدفة، بل نتاج لمدرسة حكمٍ نشأت في دولة تاريخها السياسي والأخلاقي يضرب في أعمق الجذور، ولم تُكن يوماً نتاجاً عن استعمار أو احتلال أو انتدابٍ أسهم في تأسيسها، بل ذات امتداد حضاري يعود لأكثر من ثلاثة مائة عام وربما أكثر.

إن صورة الحاكم التي خرج بها ولي العهد بفكرٍ حديث تُشكل ترسيخاً لقواعد صحيحة تقوم على أُسس حكم تاريخية، لا تمثل شخصاً بعينه، أو فئةً بعينها، بل تُعبر عن مدرسة عريقة، يعتبر الأمير محمد أحد أركان جيلها الحديث،

لذا كان لحالة الإلهام التي يُمثلها وقعاً كبيراً في الداخل والخارج. كيف لا، وهو الذي واجه غول الفساد بكل بسالة وشجاعة وانتصر عليه، ولم يبقَ أميراً أو وزيراً أو غفيراً فاسداً إلا وطالته أدوات الحساب، فقد وعد ونفّذ، وواصل المسيرة.

يقول الفيلسوف والرئيس البوسني السابق علي عزت بيجوفيتش «لم يُغنّ الشعب للذكاء؛ إنما غنّى للشجاعة؛ لأنها الأكثر ندرة»، لذا يتغنى السعوديون بقائدهم الشجاع وملهمهم المحبوب. والقصة لم تُروَ بعد.. إنها السعودية العظمى، وحتى طموحٍ جديد.. إلى اللقاء.