كتبتُ قبل سنوات في جريدة الرياض مقالا، بمناسبة عيد الأضحى، جعلتُ عنوانه «عيدٌ بأي حال عدت يا عيد»، تساءلتُ فيه إن كان أبو الطيب المتنبي يعني نفسه حصريًا بتلك القصيدة، فعبّر من خلالها عن انسداد أفقه السياسي على وقع تباشير العيد، أم أنه كان يصف حال السياق الزمني الذي كان يعيش فيه؟

لقد كنتُ، ولما أزل، أنظر إلى قصيدة أبي الطيب، بغض النظر عن إن كانت تعبر عن خلجات نفسه، على أنها تعبر أيضا عن حال زمنه الذي كان يموج بالاضطراب المذهبي، والاحتراب الطائفي؛ تلك الحروب التي مزقت شمل المجتمع العربي الإسلامي حينها، وفرقته إلى طرائق قددا، يقتل بعضها بعضا على الهوية المذهبية فحسب.

اليوم، وبعد عشر سنوات من كتابة ذلك المقال، لا يزال السياق العربي الإسلامي من حولنا على حاله التي تركه عليها المتنبي، قبل ما ينيف على ألف سنة مما تعدون. إنه سياق يكاد يختنق من مخلفات الطائفية، وإحن المذهبية التي تجوس خلال الديار، مخلفة بؤسا، وتخلفا، وفقرا، ورعبا، وانسداد أفق. ولقد زادت طينةُ هذا الاحتراب المذهبي بلة بعد الثورة الإيرانية المشؤومة التي تولت كبر دعم المشروع الطائفي، واللعب على تناقضاته في العراق واليمن ولبنان وسورية، ولا يزال حبل مشروعها على الجرار، إلا ما رحم ربك.

لقد عاصر المتنبي، الذي عاش حتى النصف الأول من القرن الرابع الهجري، أحداثا جساما من الاقتتال الطائفي بين الشيعة والسنة، أحداثا بلغت من الرعب والامتداد حدًا امتدت فيه إلى تركيب مشاهد حية، تمثل رموز الجمل وصفين، لإثارة الفتنة وزيادة ضراوتها، وإلى الاعتداء على أماكن العبادة لكلا الطائفتين. يذكر جورج طرابيشي في كتابه (هرطقات)، أنه «منذ أن دخل أحمد بن بويه الديلمي بغداد سنة 334هـ بدأت ترى النورَ ظاهرةُ الاقتتال، وحرب الأحياء ما بين السنة والشيعة، ولاسيما بين حيي الكرخ الشيعي، وباب البصرة السني». بل إن صلاة الجمعة، وهي عيد المسلمين، تعطلت كثيرًا، لاتصال القتال بين السنة والشيعة في سنة 349هـ، التي كانت امتدادًا لسنوات سبقتها من الرعب الطائفي؛ كما ذكر ابن الأثير في (الكامل في التاريخ)، على هامش أحداث سنة 349 للهجرة.

أظن أن ما أضمره المتنبي في قصيدته ليس إلا تعبير عن سياق زمني كان يتلظى بنار المذهبية، التي بدأت سياسية بحتة، ثم لونها الفاعلون الاجتماعيون بتلوينات دينية مذهبية، صنعت منها بيارق يتقاتل تحتها الصغار والمنفذون وحطب النار، بينما مضرمو نارها يتخفون خلف الستار، كما هي حال خلفهم اليوم، ممن يدعون وصلا برموز ماضية، وبدفاع موهوم عن شخصيات ومقولات ومذاهب، وهم في الأصل تجار قضايا، يتربحون منها صباح مساء.

في بيداء هذا الليل البهيم لسياقنا العربي الإسلامي المعاصر، وما يلتحفه من ملمات طائفية ومذهبية، وما يسببه من قتل، وتفجير، وتهجير، وإهلاك للحرث والنسل، ثمة ضوء ساطع وسط العتمة، مُمَثّلٍ في الثورة الاقتصادية والاجتماعية والفكرية الحقيقية التي يقودها سمو ولي عهد المملكة، الأمير محمد بن سلمان حفظه الله؛ فتلك لعمري ثورة حياة ومستقبل زاهر، لا ثورة تدمير وسفك دماء، وإحياء مكبوت طائفي مدمر، كتلك التي رافقت ما يسمى «الربيع العربي».

لقد أعطى سمو ولي العهد زخما لنوع معاصر من الثورات، ثورة سلمية تتقصد النهوض بالاقتصاد، عن طريق تحفيز فرصه الزاخرة، ومحاربة الفساد الذي ينخر بمجتمعات كثيرة من حولنا، حتى أحال شعوب بعضها، برغم امتلاكها موارد ضخمة، إلى متسولين ومهجرين ومعدمين؛ إضافة إلى اشتمالها على حرية اجتماعية واسعة، وهي الأساس في أي حرية حقيقية.

كلما تذكرنا، مثلا، تلك المزارات السياحية الهائلة التي تزخر بها بلادنا، كمزارات مدينة العلا على سبيل المثال، خامرنا الحزن من عدم تفعيلها سياحيا لسنين خلت، استجابة لمقولات لا تمت إلى قطعيات الدين بصلة، حتى جاء هذا الأمير الشاب فنفض عنها غبار السنين، وأعطاها من اهتمامه ودعمه الشيء الكثير، فإذا هي تتوفر على كنوز أثرية تضاهي، بل تفوق بعض ما يوجد في محيطنا، عمرا وتاريخا. ولولا أزمة كورونا لجلبت تلك المزارات أعدادا هائلة من السياح الذين ستستقبلهم مزارات تعيدهم إلى عبق ماضٍ سحيق. وسيكون لدينا، مع انجلاء الأزمة قريبا بحول الله، رافد سياحي ضخم، كان معطلا لسنين خلت، حتى جاءت ثورة حقيقية مباركة أخرجته من العدم إلى الوجود.

وبعدُ، فهذه هي الحرية الحقيقية، لا حرية الشعارات الزائفة المخدرة، التي دمرت البلاد والعباد، فلا أرضا قطعت، ولا ظهرا أبقت.