فلسطين هل هي قميص عثمان؟ أم هي كعب أخيل، أم حصان طروادة؟ أم هي مجرد (أزمة حضارية) بين العرب وإسرائيل؟ فإذا انتهت الفجوة الحضارية انتهت إسرائيل، مثلها تماما الفجوة الحضارية بين أوروبا المتخلفة والأندلس المتقدمة التي استمرت قرابة ستة قرون، فلما انتهت الفجوة الحضارية سقط أبو عبدالله محمد الثاني عشر آخر ملوك غرناطة واستعاد أهل الأرض أرضهم.

تفشل في الكتابة عن فلسطين لسبب بسيط يشبه خجلك من نفسك أن تكتب ما قيل وسيقال عن القضية فكأنما كلماتك بطعم «النائحة المستأجرة»، ولهذا لا تستطيع أن تكتب ما لا يفيد سوى «تسجيل موقف» بارد على الرمال المتحركة الساخنة للقضية الفلسطينية، فمنذ بدايتها وبعض أصحابها مع الجهة الخطأ (ألمانيا النازية) مرورا بالوقوف مع صدام حسين وصولاً إلى (إيران الفارسية)، فكأنما القضية من (أعظم القضايا) ويترافع عنها (أفشل المحامين)، لهذا فالمقال ليس رفعا للعتب، وليس تسجيل موقف، بل هو إيضاح لحقيقة (الظاهرة الصوتية)، فما الذي يمنع العالم من الوقوف مع إسرائيل (المعترف بها كعضو في الأمم المتحدة)، كما وقف العالم مع (سوريا حافظ الأسد) المعترف به كعضو في الأمم المتحدة ليغض الطرف عن مجزرة حماه في الثمانينيات، وها هو ابن حافظ الأسد ما زال يحكم (الجمهورية) السورية وسيفوز في الانتخابات دائما على مرأى ومسمع العالم، ومثلها في (ليبيا القذافي) مجزرة سجن أبو سليم في التسعينيات من القرن الماضي، فالعاقل يرى بعينيه كل الألوان وليس بعين واحدة لونين فقط (أبيض وأسود/‏ نحن وهم)، الفرق أن إسرائيل لا يوجد فيها ديكتاتور فرد، بل يوجد فيها مؤسسة صهيونية لا رأس لها سوى الرأس النووي وإرادة القوى العظمى لمن يتجرأ أكثر من اللازم.

يحكي الرئيس أنور السادات بكل شفافية وثقة وهو قائد انتصار حقيقي في اقتحام خط بارليف في أكتوبر 1973م ورغم هذا الرصيد الاعتباري الحقيقي الذي سجله في تاريخه تراه يتحدث بكل واقعية الشجعان بعد هذا النصر وبلا عنتريات فارغة فيقول: «سنة 71 و72 زرت الاتحاد السوفيتي أربع مرات، في مارس 71 وأكتوبر 71 وفبراير 72 وأبريل 72، وفي كل مرة وفي كل جلسة الاتحاد السوفيتي صريح أنه لا مساس بحدود إسرائيل، فإسرائيل حقيقة قائمة ولا مساس بحدودها، وموقف أمريكا كلكم عارفينه، إسرائيل في الأمم المتحدة.. خلاصة الكلام عن رمي إسرائيل في البحر مزايدة أنا غير مستعد أخش فيها، إذا إسرائيل بحدود 67 حقيقة قائمة اللي عايز يغيرها يتفضل يغيرها، أنا ما أقدرش أغيرها وثبت لكم في حرب أكتوبر يوم بعثت برقيتي للرئيس حافظ الأسد يوم 19 أكتوبر وقلت له وأنا أنزف دما سأوافق على وقف إطلاق النار لأن أمريكا لها 10 أيام تحاربني وأنا أنزف دما بنص البرقية، بعد أن رفضت وقف إطلاق النار خمس مرات، ثلاث مرات من الاتحاد السوفيتي، مرة للسفير البريطاني يوم صحاني فجر يوم 13، الخامسة لما جاء رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي وجلس أربعة أيام يقنعني بوقف إطلاق النار، كل هذا رفضته ولست مسؤولا تاريخيا عن تدمير شعبي وتدمير القوات المسلحة وأنا أواجه أمريكا فوافقت على إطلاق النار وأقول كل ما أطلبه أن تحدد أمريكا موقفها ليترتب على هذا موقف جديد خالص خالص، وبعدين السياسة لا ترسم والاستراتجيات لا توضع أمام الميكروفونات ولا تحكى...) ولهذا سلك البطل الحقيقي أنور السادات طريق (الواقعية السياسية) ولكن كالعادة اختار محامو القضية الجهة الخطأ في عدم الوقوف مع أنور السادات لتحصيل اتفاق سلام أكثر عدلا وثباتا في توازنات الرعب التي تعيشها المنطقة لدولة في وسط الدول العربية تمتلك السلاح النووي والتفوق التقني والعسكري والاعتراف الدولي كنتيجة لفارق حضاري نتهرب في الحديث عنه.

من أهم ما يعنينا هو دعم الفلسطينيين ليس بالغذاء ولا بالدواء أو إعادة الإعمار فهذا واجب إنساني، بل دعم الفلسطينيين بتعليم أبنائهم في أفضل جامعات العالم، قاوموا إسرائيل بالترقي العلمي والحضاري، فمعالجة الواقع العربي حضاريا هو الضامن الحقيقي لذوبان إسرائيل حضاريا، فكما استطاعت أوروبا معالجة الفارق الحضاري بينها وبين الأندلس حتى استعادت أرضها في غرب القارة الأوروبية ممثلة في البرتغال وإسبانيا حالياً رغم مضي ستمائة سنة على الوجودالعربي، فإن إسرائيل (الصهيونية) ستذوب تماما عند ردم هذا الفارق الحضاري، وما عدا ذلك، فصراخ نضعه ضمن التقاليد المجانية التي تشبه (ساروا بالإبل وأشبعناهم شتما)، كل أبناء المخيمات الفلسطينية خارج فلسطين يستحقون بعثات لأفضل الجامعات العالمية، كل أبناء فلسطين الداخل يستحقون بعثات لأفضل جامعات العالم، لن يكونوا كلهم (إدوارد سعيد) لكن التراكم الكمي ربما يحدث تغيرا نوعيا في (طبيعة المحامين والمدافعين عن القضية الفلسطينية) التي أنهكها الانحياز الخطأ للجهة الخطأ طيلة تاريخها.

فلسطين ستبقى في ضمير كل عربي، وسنتعايش مع الوجود الصهيوني كما تعايش الأوروبيون مع (الأندلس) كواقع عربي في غرب أوروبا، لكنهم عاشوا تحت سيادتها ستة قرون بسبب تفوقها الحضاري حتى استعادوها بسبب تفوقهم الحضاري، وسنحتمل (الصهيونية) العالمية (ما شاء الله) ومصير النشاز الديموغرافي أن يصبح ضمن نسيج الوطن العربي، ليس كما أصبح الموريسكيون ضمن النسيج الأوروبي، بل بسقوط أوراق الهوية الصهيونية كاعتماد معترف به دوليا.

المستقبل للمجتمع العربي الشاب- إن ركبوا قاطرة الحداثة بلا خوف ولا ارتياب- ليغلبوا (حضارياً) أوروبا العجوز ومن ورائها، أما إن استمروا على الاستشفاء بريق الواعظ، وأن هزائمهم العسكرية والحضارية سببها (البعد عن شيوخ الرقية) فليتذكروا أنور السادات الذي جمع شجاعة الحرب وشجاعة السلام، بدلاً من أوغاد يضحون بشباب فلسطين ليس من أجل النصر وتحرير الأرض بل من أجل (موقف تفاوضي أفضل) لطهران التي تلعب بكل الأوراق فعندها يوم القدس لدغدغة الغوغاء وعندها (يهود إيران في إسرائيل الذين يتجاوز عددهم مائتي ألف يهودي فارسي كانوا يتلقون تعاليمهم من مرجعهم في إيران الحاخام الأكبر يديديا شوفط، وكنائس اليهود في طهران كثيرة...) فحقيقة ما بين إيران وإسرائيل ليس نزاع (وجود) بل نزاع (نفوذ) فقط، أدواته وميدانه أبناء العرب وأرضهم، فمن يزايد على من، ومن يلعب بمن؟!!

فلسطين أكبر من (القدس) والقدس أكبر من (إسرائيل)، ولكل ملة قبلتها داخل هذا الحيز المقدس لديانات ثلاث، وفي داخل كل ديانة عشرات الملل والنحل والطرق والمذاهب، وكل أمة تلعن أختها، ولهذا ستبقى فلسطين شاهدا على فشل الحضارة الإنسانية للديانات الإبراهيمية في تحقيق توائم يليق بما وصلت إليه من تطور حضاري يظهر في (مواثيق الأمم المتحدة) التي أرادت محو عار الهولوكوست والدياسبورا من تاريخها الأوروبي، فصنعت عارها الأوروبي الجديد بأطفال ونساء فلسطين.

عزيزي العربي مسلما كنت أو مسيحيا أو يهوديا (سبق وأوضحت عروبة بعض اليهود في مقال فلسطين ديالكتيك الدين والأعراق والساسة) أختم المقال على أمل ألا ألقاكم في مناحة أخرى، فقد كان أبي يحدثني عما قيل له عن مذبحة دير ياسين ثم حدثت ابني عما سمعته عن مجزرة صبرا وشاتيلا، ثم ها هم أبنائي يريدون حفظ تاريخهم الخاص مع القضية الفلسطينية، ولكني أحاول منعهم خشية عليهم من الانشغال بإتقان فنون (اللطم والتباكي وميديا وهم الانتصار) عن حقيقة الفرق الحضاري الذي لا يردمه الانشغال بتأويل الأحلام لموعد اختفاء إسرائيل، ولا تأويل الملاحم في الكتب القديمة، فإسرائيل عرض بسيط من أعراض الشلل الحضاري الذي يعيشه كل ما يحيط بها من غيرها.