بين الفينة والأخرى، ينزع الإنسان إلى أن يُحدث نفسه عن كل شيء يتحرك في دواخله أو يراه في خارج دواخله، مما تُدركه تلك الدواخل الذاتية النفسية التي يعتريها كل شيء، من صروف الدهر وتغيرات الأحوال والانكفاء على النفس ودواخلها. تلك الدواخل الذاتية كاشفة لهذا الإنسان عن كل حقائقه وتصوراته النفسية، الباطنة منها والظاهرية، فلا شيء تخفيه تلك الدواخل عن ذات الإنسان وكيانه وحقيقته الكامنة في شخصه. وعندما أتصور مصطلح «الدواخل» التي في النفس، تتخذ المخيلة طريقا لإعداد مفاهيم لتلك الدواخل النفسية، التي تكون عالقة في أرواحنا، والتي هي من اليقينيات التي تدل على قصورنا الإنساني، وهي من اليقينيات المتقررة لدى بني البشر أجمعين بلا استثناء، سواء كانوا مؤمنين بإله أو دين أو غير مؤمنين بأي دين أو ملة، وسواء كانوا خيرين أو كانوا من الأشرار، فلا يكادون ينفكون عن هذه الحقيقة المحيرة لهم في نزعتهم الإيمانية أو غير الإيمانية التي يُصنفونها تحت دائرة الفكر «الثيولوجي» أو «اللاهوتي». في مقابل ذلك القصور، تدل تلك النفس المسيطرة على تلك الدواخل على اليقين المطلق، الذي لا يكاد يُنكره أي أحد أنها موجودة (أعنى بها النفس أو الروح في جميع الدراسات الدينية اللاهوتية أو الدراسات غير اللاهوتية، حتى الدراسات الوضعية والواقعية في كل مستوياتها، فإنهم يقرون بوجود حقيقتها أو كنهها من غير إثبات مادي ملموس، وهذه من العناصر المحيرة لعقول بني البشر من الفلاسفة القدماء، وصولا لفوضويي عصرنا الذين ليس لديهم إلا الجهل المركب والتراكم بالمعرفة الجاهلة، ويجهلون أنها جاهلة). فما يحدث في دواخلنا، من أفكار وتصورات، يكون مخزونا ماضويا يقبع فينا، حتى إذا تمت الإشارة إليه من اللمحات الخارجية، فإن تلك الإشارات تجعل تلك الدواخل النفسية تُعمل خاصية التذكر التي تهجم على مخيلة الذكريات القديمة التي كانت تمثل مجريات أحداث عصرنا وواقعنا. وقد كانت مخيلة الذكريات القديمة تمتلئ بكثير من الوقائع غير المتوافقة مع الرؤية العامة للمجتمع، حيث كان المجتمع ظاهريا يقبع تحت مسميات أخلاقية مؤطرة تأطيرا دينيا، بيد أن الحواري (جمع حارة، وهي المكون الأول لمجتمعنا القريب المعاصر)، التي تؤسس تلك المجتمعات، لم تكن تتبنى ذلك التأطير الديني الظاهري للمجتمع، بل كان تدين تلك الحواري في المجتمعات القديمة تدينا بسيطا وسهلا، ينزع بعيدا عن كل التعقيدات اللاهوتية، لذا فإن ما تحمله دواخلنا النفسية عن الماضي، الذي يتسم بالبساطة والحياة السهلة غير المعقدة، يكون شيئا ثمينا يكاد تُقارنه دواخلنا بالذهب النفيس، وذلك لما تحمله تلك الذكريات من نسمات ونفحات ذات قيمة معنوية، لها التأثير النفسي القوي الذي يجعل تلك الأرواح التي تعيش في عبق الماضي البسيط لها إشراقات وتأملات في كل شيء من حولها، ولها نظرات فيما أزعم أنها ثاقبة في معرفة حقائق الأمور، وذلك لما تحمله من عمق في تأملاتها القديمة، مما أحدث لها رؤى وتصورات فيها من الثقل الفكري ما يجعلها ترى ما لا يراه غير الخبير، وذلك قبل تأثيرات مواقع التواصل الاجتماعي، وأجهزة الاتصالات المحمولة، وقبل ذلك أجهزة الأطباق الطائرة (الدشوش)، التي كانت قد بدأت في نقل القنوات عبر تلك الأطباق، التي طارت معها عقول بني البشر، بعد أن كنا منغلقين في صندوق واحد، ليس فيه الخيارات الفوضوية المعاصرة لنا الآن.

تلك الفترة الانتقالية كانت قد سبقتها الفترات الماضوية التي أتحدث عنها، حيث كانت فترات ليست بالقديمة جدا، بيد أنها كانت تتمتع بشيء من عبق فترة الستينيات والسبعينيات، التي كانت تُشكل البناء الفكري والتصوري لكثير من أفراد المجتمعات. كانت القيادة الفكرية غير الرسمية لعموم المجتمعات تتمثل فيما يبثه الإعلام من أفلام ومسلسلات، وما تُسطره الصحف والمجلات من رؤى وأفكار، يتخذها أفراد تلك المجتمعات اتجاهات لرؤاهم وتصوراتهم عن الحياة. وهذا التشكل يكون في مستويات هرمية، بحسب الهرمية المجتمعية، وذلك أن هناك مستويات هرمية لا تقرأ الصحف والمجلات، ولا تستمد معارفها من خلال الخبرات ذات القراءات المعمقة، بل كانت تستمدها من خبراتها الذاتية، ومدى قربها أو بُعدها ممن يكون متصفا بالإطلاع والقراءة. هذا التفريق مهم جدا، لفهم حركة مجتمعاتنا المعاصرة، وكيفية فهم مشكلاتنا، من أجل طرح الحلول ذات القيمة التي تُعالج تلك الإشكاليات، فعندما تمر تلك اللحظات، من خلال تلك الدواخل النفسية، أجد أنها أحيانا تمر مرورا ثقيلا، وكأنها بتصوير الحركة البطيئة، وكأن تلك اللحظات تريد أن تخاطب شخوصها بأن ما حدث في تلك اللحظات ما كان ينبغي أن يحدث على تلك الهيئات والتشكلات، وما كان ينبغي لتلك المعاني التي صاحبت تلك اللحظات أن تكون مصاحبة لتلك التفسيرات التي تمسك بها شخوص تلك اللحظات، وبنوا عليها قراراتهم المصيرية التي شكلت حيواتهم التي ألزموا أنفسهم بها، وألزموا من تحتويه رعايتهم بها. تلك مقاطع وتصورات من دواخل نفسية تحدث أمامي عادة، فمثلا ما يحدث من هلع وخوف من سيطرة بعض أصحاب القوة خارج النظام في تلك الحواري، وفي تلك الأزمنة الماضية، كان شيئا مأساويا، حيث كان القوي يفترس الضعيف في تلك الحواري، وكانت تقع كثير من الأفعال المشينة من تصرفات غير أخلاقية لكثير من أبناء تلك الحواري، ولا أحد له القدرة على التحدث في تلك الأخطاء والتصرفات، وذلك بسبب سيطرة اللاأخلاقيين على زمام الأمور. ولم يكن يوجد من يستنكر تلك التصرفات والأفعال غير الأخلاقية، وهو أمر محير للغاية، ولما أجد من فكك أسرار تلك التصرفات والوقائع، حيث كانت كثير من الحواري المجتمعية تعج بتلك التصرفات غير الأخلاقية، بل كان أولئك غير الأخلاقيين يفتخرون بأفعالهم وتصرفاتهم. تلك التصرفات لا تزال موجودة، بيد أن عصر التقنية السريع كان كاشفا لها، وليس مؤسسا لغايتها وأهدافها، وذلك أن التصرفات والأفعال، من حيث وجودها، تكون إما تصرفات وأفعال تُخلق وتنشأ من العدم، وهذه تُسمى «أفعال مؤسسة جديدة»، وإما تصرفات وأفعال تكون موجودة في الأصل، بيد أنها لا تُرى للكثيرين، فيتم إخراجها للعلن، وتصبح ظاهرة وبادية للعيان، فهذه الأفعال ليست مؤسسة ومنشأة من العدم في لحظة ظهورها، لكن تلك اللحظة كانت كاشفة لها بشتى وسائل الكشف للظهور للعلن. هذا التفريق بين التصرفات والأفعال المؤسسة والكاشفة قاعدة منهجية مهمة في التفكير، خصوصا في فهم المسائل العلمية، سواء الفقهية أو الأصولية أو النحوية أو حتى التاريخية. كنت أقرأ عن التصرفات اللاأخلاقية كثيرا في كتب التاريخ المليئة بالتراجم والسير الذاتية، وهناك فرق دقيق بين الترجمة والسيرة الذاتية، حيث إن كلمة «ترجمة» يجري المصطلح على استعمالها لتدل على تأريخ الحياة الموجزة للفرد، وكلمة «سيرة» يصطلح على استعمالها لتدل على التاريخ المسهب للحياة، فالذاتية هي التي تصور لنا أبعاد كاتبها من الداخل والخارج من خلال رؤيته هو، المسلطة على ذاته المكتوبة بقلمه، وتحقق له التوافق والاتزان إذا تيسر له أن يعيش حياته الداخلية والخارجية والعليا من خلال ذكرياته، والكشف عن أسرار حياته، وتأمل ذاته العميقة، بما فيها من ثراء وخصب داخلي. وقد نشأ الصنفان في حضن التاريخ، وكلاهما يمثل تاريخ حياة شخص ما، وما أعنيه هو الحديث عن الدواخل النفسية، وما يدور من أحداث في دواخل نفس المترجم له أو كاتب السيرة الذاتية.

كانت تلك السير الذاتية تأسرني كثيرا، وأتوقف - متأملا بعمق - عند أحداثها وشخوصها وتشكلاتها الزمانية والمكانية، سواء كانت القديمة منها أو الحديثة، فمثلا كتاب «الجبرتي»، وهو يحكي تاريخا قريبا، يصور الحياة في مصر، وما يدور فيها من أحداث واقعية، وكيفية التغيرات الاجتماعية من خلال الحياة اليومية. وهذه المراجع التاريخية للوقائع هي مصدر ثمين لفهم العناصر المكونة للمجتمعات، وفهم كيفية جريان الأمور في الواقع المعاصر، بيد أن هذا الأمر يتطلب تفرغا تاما، ومراكز بحوث، ودراسات متخصصة حقيقية، تسعى لرفع جميع مستويات الحياة، ومليئة بالكفاءات، وبشرط أساسي أن تكون ليست تجارية، وليست ممنهجة بنهج سياسي، وهذا مطلب كل مثقف يتوق إلى المعرفة والثقافة، بيد أن هناك عوائق وعواقب تحول دون الوصول لتلك الأمنيات، وبسبب عدم تحقق تلك الأمنيات، فإن كثيرا من الظواهر السلبية التي تقبع في مخيلتنا وذكرياتنا القديمة لن تتم إعادة كشفها، وبيان خللها، لتسهيل الواقع والمستقبل، بلا تكرار لأخطاء ماضوية لا تزال شاخصة أمام دواخلنا الذاتية والنفسية إلا بعد فحص تلك الظواهر، وإعطاء الفرصة للباحثين في تلك المراكز الحرية المطلقة في البحث والاستدلال والنظر في كل مكونات المجتمع، للخروج بأعمق الدراسات الحقيقية التي لها فاعلية وتأثير في حياة الفرد البسيط العادي.