قرأت مجلد (الريادة والاستجابة) ومجلد (عبقرية الاهتمام التلقائي) ومجلد (الإنسان كائن تلقائي) لإبراهيم البليهي ـــ بدون ألقاب ـــ فقد تجاوز القنطرة بهمه الفكري الإنساني، فليس استاذًا جامعيًا يمارس اشتغاله الثقافي من باب (حج وبيع مسابح) بل إنشغال ثقافي سببه (دافع ذاتي لهم فكري حقيقي)، ففي كل ما (يراه) المطلع العادي من تكرار للمعلومات (سيبصر) القارئ وراءه محاولة البليهي ترسيخ الفكرة وإيضاحها أكثر، عبر إيرادها في سياق فكري مختلف كنوع من (قلق المهتم بالإفهام)، تكاد وأنت تواجه هذا في بعض صفحات كتبه/ مجلداته أن تشعر بالبليهي في هذا الجهد المستميت في الترسيخ والإفهام وكأنما أخذ بقول الشاعر العربي الكبير عبدالعزيز المقالح: (سنظل نحفر في الجدار، إما فتحنا ثغرة للنور، أو متنا على وجه الجدار).

انتهيت من كتبه/ مجلداته بعد أن قرأتها سطرًا سطرًا، لم أجعل معها في برنامج قرائتي سواها حتى انتهيت منها، حاولت تشرُّب إبراهيم البليهي أو كما يقول أحد حكماء هنود أمريكا عندما يشعر أنه عرف شخصًا معرفة تامة فيقول له (لقد دخنتك)، وإذا جازت الاستعارة فبإمكاني القول أني (دخنت ما ورد في كتب البليهي) كما يليق بمدخن قديم للكتب.

تنتهي من هذا (الكورس البليهي) وأنت ملئ بالإحباط الذي يشعرك بحجم المصيبة المسماه (التخلف) والمصيبة الأكبر المغروزة بدواخلنا المسماة (القابلية) لهذا التخلف، كأصل في طبيعة الأشياء قبل أن تكون فينا، والتي جعلت مزارعًا مسيحيًا يجيب أحد أصدقائه عندما قال له: مزرعتك جميلة وفاتنة بعناية يسوع لها، فقال له: ليتك رأيتها قبل أن أعتني بها لتعرف كيف كانت مع يسوع وحده أرضًا يباب، وكيف ستعود يبابًا لو تخليت عنها وتركتها في يد يسوع.

لن أتكلم عن (علم الجهل لتحرير العقل) كمحور رئيسي في إطروحة البليهي، فقد تكلمت عنه في مقال سابق بعنوان (محاولة للإمساك بعلم البليهي) لكني هنا أتكلم عن (مشاعر ذاتية) تصلك بعد ختام القراءة لتخرج محبطًا جدًا ومنهكًا، عاجزًا عن رغبة الكتابة لبضعة أيام لكنك تبصر أكثر، محملًا بمشاعر تستعيد معها رواية (رجال تحت الشمس) لغسان كنفاني، مع قلق مخيف بأن أعلى الصرخات والدقات على جدران الخزان لن تنقذهم، حتى ولو جعلها غسان كنفاني ــ في روايته ــ شرطاً بسيطًا وساذجًا لنجاة ضاعت بين الخوف والرجاء بانتظار رجل خصي يكمل بهم عبور الحدود.

من يفهم ما كتبه البليهي كما فهمته، فسيشعر أنه تفسير هادئ ورزين وعقلاني لهذه الكلمات: (إن الثوار لا يمكن أن يصنعوا الحرية، إنهم أبدًا خصومها، ولكن الحرية تحفر طريقها بلا تشريع، بلا ثورة، كما يحفر النهر مجراه، بمواصلة السير في جوف الصخور والتراب، بمقاومته الطبيعة، إن الحرية لا توجد بالإرادة، أو الخطة، أو الأمر، إن الحرية توجد بالتعامل مع الأشياء الصعبة، والمتناقضة والمضادة، إن الحرية هي التعود على السير في طريق مسدود بالمتناقضات والأحزان، إننا نتعلم الحرية كما يتعلم الأعمى السير بين حقول المهالك مبصرًا بعصاه) لقد خرج البليهي من رحم نفس المعاناة ــ تقريبًا ــ لكاتب هذه الكلمات لكنه خرج (من) الآبائية والتقليد إلى ديكارت وفرانسيس بيكون وغيرهما من رموز التنوير، ولم يخرج (على) الآبائية والتقليد إلى الشتم واللعن والبصق، وهذا الفرق بينه وبين (عاشق لعار التاريخ).

ما بصق به وصرخ عبدالله القصيمي بشكل غير محتشم في وجه (عار التاريخ)، قاله إبراهيم البليهي بمنطق وهدوء واحترام وتقدير ورزانة محافظًا على كل مقتضيات اللياقة واللباقة والحشمة والنبل في التعامل مع (التخلف) وفي ظني أن النتيجة واحدة مع تجربة كليهما في الكتابة ضد (عار التاريخ/التخلف/الجهل) فقليل الاحتشام عبدالله القصيمي والمهذب النبيل جدًا إبراهيم البليهي سيصلان لنتيجة واحدة وهي الجلوس إلى أقرب كرسي مترنمين بقصيدة نزار قباني حرفًا حرفًا كلمة كلمة (أنا يا صديقة متعب بعروبتي) كعزاء شعري لما كتباه نثرًا طيلة عمرهما، مع وجود فارق نوعي في مستوى الكتابة، فالقصيمي يستخدم جميع الأسلحة المحرمة دوليًا، بينما البليهي يستخدم (القوة الناعمة) بكل مهارة تراها في تكرار المطرقة بيد نحات بارع، ولهذا يبقى القصيمي (مجرم حرب في طرح الفكرة) ناري الحروف والكلمات يرهب بنابالم كتبه كل العقول الصغيرة ولا يبالي، ويبقى البليهي (سياسي صارم في طرح الفكرة) براغماتي اللغة، يتقي الدهماء والرعاع وليته سلم، وبدون وجود أي سبب منطقي يعتمد عليه، إنما هو أثر من آثار (تدخين كتب البليهي) فإني لا أراه إلا امتدادًا مهذبًا للقصيمي الذي مات منذ عقود ولم ير أبناء (التناسل الثقافي) في كتبه سوى أنه ملحد رغم ما مضى من عقود وأجيال، وللبليهي كل العمر المديد والوقت السعيد بصحة وعافية، ولكن لن ير أبناء (التناسل الثقافي) في كتبه لعقود قادمة سوى ما رآه العوام وأنصاف المثقفين الآن بأنه (يتنكر للهوية ويجلد الذات).

إبراهيم البليهي حقيقي جدًا، إنه ابن جلدتنا الأصيل النبيل لكنه الوحيد بين الجموع الذي لم يفقد عصب الحس في هذا الجلد فأخبرنا عن مدى القروح وآثار (جدري التاريخ الثقافي) ولن نحس أو نشعر رغم النزيف، بل سيتهمه (المتثاقفون) أنه من هواة جلد الذات كتبرير بارد وبائخ لكل هذه القروح التي يراها ويحس بها، هو يريد الشفاء الحقيقي وهم للأسف يكملوا دراساتهم العليا ليتقنوا فقط استيراد واستخدام أفضل ماركات المكياج وكريم الأساس، فهل رأيتم زيفًا وزورًا أكثر من علاج القروح النازفة والتشوهات بالمكياج وكريم الأساس؟! هذه مأساة البليهي مع (مخرجات التناسل الثقافي من المثقفين والأكاديميين) الكثر ممن تحولوا إلى ماكيير وكوافير ثقافي للحالة العربية.

وللأسف فإن معظم من قرأوا كتبه ثم كتبوا عن مشروع البليهي قرأوها لتكون (خطة فهم) ولم يقرأوا كتبه لتكون (خطة وجود) ولهذا فهم يكتبون عن البليهي وكتبه بطريقة مدرسانية لا تتجاوز (ما يستفاد من الدرس) كخطة فهم بينما التغيير الجذري والحقيقي سينقدح في ذهن من يقرأ للبليهي ليصنع مما فهمه (خطة وجود) وهذا صعب على العقول المستغرقة في (التلقائية) مهما (درست واندرست/ تأكدمت أكاديميًا) فما كتبه البليهي متجاوز لوعي مؤسسات دولية كاليونسكو التي ترسخ في بعض أدبياتها (تقاليد التخلف) دون أن تشعر، فهل عرفنا عمق الوعي وبعد المسافة، ولهذا عاش البليهي بأظفار عارية تحفر وجه الجدار.

هل ما كتبه البليهي كامل وغير متناقض، بل ناقص ومتناقض ما بين قراءته المادية للإنسان والمجتمعات، ومتطلباته المثالية في ولادة السوبرمان، لكن هذا التناقض والنقص يثير في القلة النادرة تبني هذا المشروع بأظفار عارية أيضًا لينبثق عن إطروحة البليهي إطروحات أخرى تشبه ما انبثق عن محاولة فرويد في علم النفس من مدارس نفسية بعضها تعترف بأنها امتداد له، وبعضها تتنكر له، وفي (لا وعيها) تتكئ عليه، فالبليهي كالقصيمي تمامًا، من فهمه بعمق لا يمكن له أن يتقيأه، بل عليه أن يهضمه ويتقبل مواصلة حياته بتجاعيد في الجبهة كسطور مملوءة بأسماء (فلاسفة، مفكرين، سياسيين، فنانين، مخترعين، مغامرين،.. إلخ) جعلوا لهذه التجاعيد معنى يتجاوز علم اجتماع (الثدييات) وصراعات الميتافيزيقا، ومنهم إبراهيم البليهي مما يعيد للذاكرة عبارة مسطورة قبل خمسة عشر عام في كتاب (سياط الكهنوت) تقول: (أقزام كناطحات السحاب!؟!.. لأن العملاق هناك تجاوز درب التبانة)، وهذا المقال ليس تأبينًا للأحياء، لكنه تأبين للفكر العملاق في زمن (حرب الثلاثين عامًا) على الأرض العربية.