تجتاح حياتنا الكثير من الأحداث، سواء على المستوى الشخصي الفردي أو على المستوى الجماعي، أو حتى على مستوى تصرفات المؤسسات والشركات والدول. تلك الأحداث لها سياقات ومعانٍ يتم فهم أصلها على ضوء تلك المعاني والسياقات، بيد أن أمرا قد اخترعه وأسسه علماء العربية، من نحاة وصرفيين وبلاغيين، الذين ندين لهم بكل معرفة وعلم نحن ننعم فيها الآن، حيث قرروا قاعدة لها شأن عظيم في كل حياتنا وتصرفاتنا، بل إنني أزعم أن كل خلافٍ في أي علم أو مسألة أو حكم شرعي أو قضائي، فإن قاعدة «أمن اللبس» لها النصيب الأكبر في فهم أصل تلك المسائل، وتفكيك خلافات المسائل العلمية في شتى العلوم، بل إن قوة غموض وعدم فهم حقيقة مسألة «أمن اللبس» وأثرها كان لها وقع وأثر كبير فيما أدركته من خلافات علمية بين طلاب العلم في ثمانينيات القرن الماضي، وهي خلافات عاصفة وحادة وقوية جدا حيال كثير من المسائل العقدية التي لها شواهد حقيقية في حياتنا المعاصرة، ظهرت فيما بعد. هناك أساس منهجي علمي في كيفية معرفة المصطلحات، يتوجب اتباعه عند طلبنا معرفة مصطلحات أو عبارات نسعى لفهمها، وهو أنه لا يمكن فهم المصطلحات أو العبارات إلا بعد معرفتها عند أهل العلم الذين قد تم إنشاء تلك المصطلحات في ساحتهم وصاغوها بمعرفتهم، حيث إن فهم مرادهم ومعرفة التسلسل التاريخي لذلك المصطلح هما المرجع في كيفية فهم سياقات ذلك المصطلح في العلوم الأخرى التي تستدل به. وقد كانت عبارة «أمن اللبس» ترد كثيرا لدى النحاة في كتبهم مثل قول «ابن مالك» في ألفيته «وإن بشكل خيف لبس يجتنب»، التي لا عذر لطالب علم أو مثقف لا يكون ملما بما فيها من أحكام وقواعد، وكذلك قولهم «إذا أُمن اللبس» أو «عند أمن اللبس».

لذا، فإن مفهوم «اللبس» في الأصل اللغوي هو بمعنى الاختلاط والاشتباه والمداخلة، وعدم التفريق بين الأمور الواردة في سياق معين، فكل هذه المعاني تتضمنها لفظة «اللبس»، التي لها علاقة كبيرة بالمعنى المراد من عبارة «أمن اللبس» عند أهل العربية، فـ«اللبس» هو تعدد احتمالات المعنى، وليست لأحدهما قرينة ترجحه، ولا يستطيع المتلقي أن يقطع بأن المقصود واحد بعينه من تلك المعاني المحتملة، وعلماء اللغة يطلقون على «اللبس» أنه «إشكال»، فـ«المبرد» يطلق على «اللبس» إشكالا، فيقول: والوجه في كل مسألة يدخلها اللبس أن يقر الشيء في موضعه ليزول اللبس، وإنما يجوز التقديم والتأخير فيما لا يشكل، وكذلك اسماه «ابن جني» إشكالا، حيث أتضح أن «اللبس» هو غموض وإبهام يولد إشكالا في الفهم والتمييز بين الأمور المعروضة أمام السامع أو المتلقي، وهذا ما يجده الدارس عند النظر في عبارة «أمن اللبس»، واستصحابها عند الدراسة (المقصود بها بحث المسائل والتردد على المراجع، فطالب العلم لا يزال في طور الدراسة حتى يأتيه اليقين) والقراءة، حيث يلاحظ أن تلك العبارة (أمن اللبس) تتكرر كثيرا، ويتم الاستدلال بها بشكل كثيف، فيتضح أن لها ارتباطا وثيقا في كيفية الفهم للمسائل عموما، ولا يقتصر استعمال ذلك المصطلح على علوم العربية، بل إنه يرتبط بعلوم كثيرة، كما في علوم الفقه وأصوله وقواعده والتفسير، ومن ذلك قول الفقهاء في قاعدة «كل مباح يؤدى إلى التلبيس على العوام فهو مكروه»، وكذلك له علاقة في دراسة المفاهيم الفكرية وإشكالياتها المعاصرة.

من تلك الإشكاليات الفكرية، طريقة عرض النصوص والتلقي، خصوصا في العلوم الشرعية، وبالأخص في المسائل التي يستنتج منها طلاب العلم المبتدئون مسائل لها تأثير على الواقع، والحكم عليها بكل ما فيه، وما يترتب على ذلك. تلك الإشكالية هي «اللبس» في كيفية تلقي نصوص قديمة تمت كتابتها بلغة لا يمكن لطالب علم صغير أن يفهم المراد منها، بل إنه سوف يستقطعها من سياقاتها ومن مكانها وزمانها التي قيلت فيه، فيقع في اللبس والخلط، وذلك بسبب أن من يُلقي تلك العلوم على طلاب العلم يتوجب عليه أن يُكيف كلامه بما يتواءم مع المتلقي، ويتم ذلك بمراعاة الموقف والمكان والزمان والملابسات الظرفية، فلا يمكن مخاطبة الدراسين المبتدئين بلغة العالم في الفلسفة واللغة، والمدرك للأصول العلمية، حيث كانت طريقة التدريس التقليدية هي عرض المتون وشرحها بلغة من وضعها، دون مراعاة أصل تلك المتون ومراد ومقصد واضعيها. على سبيل المثال، عندما يقرأ طالب علم مبتدئ مسائل في كتب العقيدة مثل مسألة التكفيرأو مسائل الولاء والبراء، وما قرره بعض العلماء في زمنهم، وأصدروا أحكامهم على من يقع في تلك التصرفات أنه يكون مشركا خارجا عن ملة الإسلام، وكذلك مسألة دار الإسلام ودار الكفر، حيث قرر بعض العلماء السابقين في كتبهم (يتم تدريس كتبهم وقراءتها في المدارس التقليدية) أن البلدان والأقاليم التي يتم فيها الطواف على قبور الصالحين، وطلب الشفاعة من أصحاب تلك القبور، بلاد كفر، وتنطبق عليها أحكام دار الكفر، وكذلك مسألة، قد أنهكت مجتمعنا كثيرا، وقد كان لها المفعول الكبير في إعادة إنتاج الفكر المتطرف، وهي «من لم يكفر المشركين فهو كافر، ومن شك في كفرهم فهو كافر»، فهذه قاعدة تتضمن لبسا وإشكالا، سواء في فهمها أو تنزيلها أو الاستدلال لها أو بها، وهي قاعدة لا يزال الدارسون يتلقونها في محاضن تعليمهم دونما يكون هناك نقد حقيقي لهذه القاعدة وأخواتها التي هي أصل من أصول التطرف، سواء كان ذلك مقبولا لدى من يقررها أو ليس مقبولا، فإذا ما لم يتم تفكيك هذه القاعدة وأخواتها، فإننا سوف نبقى في دوامة محاربة التطرف في الشكل دون الولوج إلى حقيقة وعمق ذلك الفكر الجرثومي الخطير. هذه الأمثلة لم تتم فيها مراعاة ظروف تلك المسائل التي أصدر فيها العلماء أحكامهم، ولم يتم تحقيق قاعدة «أمن اللبس في التأصيل» أو «التقعيد والشرح»، حيث إن هذا المُلقي على طلاب العلم المبتدئين والمتلقين منه تلك المسائل لو أمعن النظر في مآلات تلك المسائل لقاده ذلك النظر إلى التمعن والتفكر في قاعدة مراعاة «أمن اللبس»، ولجعله ذلك التمعن يحجم عن إيراد تلك المسائل والفتاوى الخطيرة، التي لها آثار مدمرة، في فكر طلاب العلم المبتدئين الذين أصبحوا في حالة برزخية، فهم يعيشون في واقع معاصر يختلف اختلافا كليا عما يقرأونه ويتدارسونه في كتب تم تأليفها متأثرة بظروفها الزمانية والمكانية. عدم مراعاة قيد «أمن اللبس» في فهم المعاني والتصرفات والأحداث يوقع في إشكاليات عدم ضبط ما ينتج عن تلك الفهوم التي تم استخلاصها، لذلك يُقرر الراسخون في العلم عند إشكالية اللبس قاعدة، وهي قولهم: «لينوط باللفظة المشكلة من القرائن ما يُخلص معناها إلى المفهوم الذي قصده حتى يكون المعنى مستبينا»، وكذلك يقررون أنه «يجب مراعاة المعنى إن حصل بمراعاة اللفظ لبس أو قبح»، فالخروج من اللبس هو المطلوب شرعا وعرفا وعقلا، وكل طريق أو مسار ينهج نهج عدم مراعاة «أمن اللبس» في جميع العلوم والتصرفات والأحداث مطلوب تحجيمه وإيقافه بالوسائل العلمية، ولو كان تاريخا أو فتوى أو علما قد صدر أو وقع في حالة ظرفية مرتبطة بزمانها ومكانها، نعلم عنها القليل ونجهل الكثير، فلا مناص من تطبيق الوسائل العلمية على تلك التصورات الماضوية، ونقدها وتمحيصها، خصوصا إذا كانت تُنتج لنا إشكاليات فكرية عويصة، وتُنشأ فكرا متطرفا في فــهــم النــصــوص، فهناك حاجة ماسة لعقل خلاق، ليغوص مجددا في الظاهرة الأساسية ويتقن حقائقها التي توضحها، وذلك العقل الخلاق ليس فردا بل هو عقل جمعي، يتوافق على أن لدينا إشكالية حقيقية في كثير من كتب الفتاوى والمؤلفات التي تتضمن أمورا ملبسة ومشكلة، ولا يؤمن على النشء وصغار طلبة العلم من أن يقعوا في هذا اللبس عند قراءتهم تلك المؤلفات، فيقعون في المحظور، وذلك من خلال عدم استصحابهم فكرة «أمن اللبس».