إنجاز ثقافي وحضاري جديد سجلته المملكة، خلال الأيام الماضية، بإعلان منظمة «اليونسكو» إدراج منطقة «حمى» الثقافية، التابعة لمنطقة «نجران» في المملكة العربية السعودية، على قائمتها لبرنامج مواقع التراث الإنساني العالمي، حيث إن قائمة التراث العالمي لا تسجل أي موقع إلا إذا توافرت فيه قيمة استثنائية عالمية، ويكون له دور مهم في التاريخ الإنساني، وتوافرت فيه ضوابط مهمة تتعلق بالحماية والأصالة، وكل هذه المعايير - بحمدالله - توافرت في موقع «حمى» الذي يعد من أهم المواقع الأثرية في التاريخ، بوصفه «السجل الذهبي» لكل الأحداث التي شهدتها الجزيرة العربية في العالم القديم، بما يضمه من «النقش - الرسم - المدفن - الرجوم - الكتابة المكتملة» التي توثق جميع تلك الأحداث التاريخية.

المنطقه التاريخية بـ«حمى»، التي تم تسجيلها، تقدر مساحتها بنحو 22 كم، وتضم ست آبار (أم نخلة - القراين - الجناح - سقيا - الحماطة - الحبيسة)، التي ظلت تمثل، منذ ما يزيد على سبعة آلاف سنة قبل الميلاد، محطات رئيسية للقوافل التي تمر في طريقها من جنوب الجزيرة العربية إلى شمالها، حيث كانت تقصد تلك الآبار للتزود بالماء خلال رحلاتها الطويلة. كما كانت، في الوقت نفسه، ملتقى للمبدعين من رسامين ونحاتين، يعرضون فيها مهاراتهم ويتبادلون المعارف، وهو ما ظهر في الإرث الثقافي الذي خلدوه على جبالها وصخورها.

وعلى الرغم مما يمكن أن تحققه العناية بقطاع الآثار من مكاسب ثقافية واقتصادية وأدبية للمملكة، عطفا على ما نراه في كثير من الدول المحيطة، فإن كثيرا من المواقع التاريخية تعرضت - للأسف - إلى إهمال كبير متعمد خلال العقود الماضية بسبب قصور في رؤية البعض، وسوء تقدير لحقيقة الأمور. وقد تصدى بعض العلماء الأفاضل إلى فتاوى مضللة، زعم أصحابها أن الاهتمام بها يتعارض مع الدين ويقود إلى المفسدة، إذ أبان العلماء الأجلاء أن العناية بالمواقع التاريخية يتوافق مع الإسلام الذي يدعو في كثير من المواقع إلى السير في الأرض، وتدبر سيرة الأسلاف، وأخذ العبرة والعظة من حياتهم وتجاربهم.

مع إقرار «رؤية المملكة 2030» تم توجيه بوصلة الاهتمام نحو قطاع الآثار، حيث تم التطرق له ضمن محاور الرؤية الثلاثة: المجتمع الحيوي والاقتصاد المزدهر والوطن الطموح، لأن العقول التي أنتجت تلك الرؤية هي عقول شابة تعرف لغة العصر، وتجيد استغلال إمكانات البلاد في تحقيق المصلحة، وتعلم ضرورة تفعيل كل المصادر التي يمكن أن تشكل روافد اقتصادية متجددة، تسهم في الوصول إلى التنمية المستدامة، وتحقيق الإضافة المرجوة للاقتصاد الوطني.

كذلك، فإن التوجه السعودي نحو تفعيل القطاع السياحي، وتطويره ليصبح رافدا رئيسيا من روافد الاقتصاد الوطني، يعتمد بدرجة كبيرة على تأهيل التراث الإنساني الذي تضمه المملكة، وتهيئة المواقع التاريخية، وفتحها أمام الزوار والسياح، وتعريف العالم بأرض الحضارة الإنسانية، وبما حققه أسلافنا من منجزات تقف شاهدة على عظمة الإنسان السعودي وتطوره عبر حقب التاريخ المختلفة.

من المهم بعد هذا الإنجاز الاستمرار في المحافظة على هذا الموقع والمواقع الأخرى التي تم تسجيلها، وتعزيز الاستفادة الاقتصادية منها، فالتسجيل في قائمة التراث العالمي ليس فقط قيمة ثقافية، بل يضيف قيمة اقتصادية عظيمة للموقع الذي يسجل، التي يقدرها البعض بـ40% زيادة في الدخل الاقتصادي للمنطقة التي يقع فيها التسجيل، لذا فلابد من العمل على تأهيل هذه المواقع التراثية الستة، وتحقيق أكبر استفادة اقتصادية منها، بحيث تكون مصدرا جديدا لتوفير فرص العمل في مناطقها لأبناء وبنات الوطن.

الرؤية جاءت بتصور متكامل لتعزيز العناية بالآثار، حيث أقرت مواصلة العمل بأسلوب علمي حديث، لأن الاهتمام المحلي لا يكفي وحده لتعريف العالم بما تذخر به بلادنا من مواقع فريدة، فنادت بتكثيف الجهود، لتسجيل المزيد من المواقع على لائحة التراث الإنساني، ومضاعفة العدد المسجل، فما زالت منطقة «نجران» كغيرها من مناطق المملكة زاخرة بالمواقع التراثية، وعلى رأسها مدينة الأخدود الأثرية.

الجانب الآخر، الذي لا يقل أهمية عن المكاسب الاقتصادية، يتمثل في تطوير العلوم والمعارف، وتحويل المملكة إلى مقصد رئيسي للبعثات العلمية والأكاديمية التي حتما سوف تزور تلك المواقع التاريخية، لإجراء دراساتها، مما يوفر فرصة لجامعاتنا الوطنية لتوقيع اتفاقات تعاون علمي، تعود عليها بفوائد كثيرة.

أما على الصعيد الداخلي، فإن الاهتمام بالمواقع التاريخية والأثرية يحقق مكاسب متعددة، منها على سبيل المثال تعريف الأجيال الجديدة بثقافة الآباء والأجداد، وتقوية الوحدة الوطنية، وترسيخ القيم العربية والإسلامية، والحفاظ على الهوية، فمن لا يتمسك بتاريخه ويعتز بماضيه سيكون مصيره الذوبان في ثقافات الآخرين، والطريق إلى الحاضر المزهر والمستقبل المشرق يمر فقط عبر العناية بالماضي العريق. ولا يفوتني هنا أن أثمن لأهالي المنطقة تعاونهم مع إمارة المنطقة والهيئة العامة للسياحة بالمحافظة على المواقع التراثية في المنطقة. وما كان ليتحقق هذا الإنجاز لولا توفيق الله، ثم الدعم اللامحدود من القيادة الرشيدة. وأثمن، في الوقت نفسه، جهود أمير المنطقة ونائبه ووزير الثقافة والمندوبة الدائمة للمملكة في «اليونسكو»، الأميرة هيفاء بنت عبدالعزيز آل مقرن، وجميع القائمين على هذا الملف من داخل المنطقة وخارجها، ممن لا يتسع المقام لذكرهم، وإن كانوا يستحقون.

هذه هي الوصفة السعودية التي أدهشت الآخرين وأثارت الإعجاب، فهي تقوم على المزاوجة بين العراقة والأصالة، تأخذ الجديد المفيد وتستصحب تقاليد المجتمع الراسخة، وتضع الثوابت أساسا وقاعدة للانطلاق نحو آفاق أكثر إشراقا وحداثة، فالهدف الأساسي هو تعريف العالم بالمنجزات الحضارية الكبيرة لبلادنا، وذلك عبر فتح مواقع التراث الوطني والعربي والإسلامي القديم، لتكون شاهدا حيا على دورها الفاعل منذ بداية التاريخ الإنساني، وموقعها البارز على خارطة الحضارة، وإرثها العريق الذي تمتاز به، وهو ما يمكن أن يسهم في تقديم صورة حقيقية عن المملكة.