كثير من المعتقدات والتقاليد والأفكار الفلسفية التي تبدو تراثًا عريقًا لأمة من الأمم أو شعب من الشعوب ليس في واقع الأمر سوى تراثًا حديث العهد أو من ابتداع أحدهم، فالتراث الإنساني يمكن اختراعه، ويكون التاريخ مصدرًا مهما يمكن الاستفادة منه لإضفاء الشرعية والمصداقية على هذا التراث. ويعتقد كثير من الباحثين أن لفظة «الغرب» تعد من المفاهيم التي يمكن القول بأن الخيال لعب كثيرًا في تكوينها وصناعتها ونشرها على أوسع نطاق وتصميم تراث خاص به يعكس فرادته، حتى انقسم العالم إلى شعوب غربية وشعوب شرقية، وكل شعب له عرقه الخاص وفكره المتفرد ومزاجه العقلي الذي يميزه عن غيره من الشعوب، ولهذا المزاج العقلي الخاص دوره البارز في الإيمان بالخرافات والمعتقدات البالية واللجوء لأعمال العنف والتطرف.

إن لفظ «الغرب» أصبح لفظًا طوطميا له طابع السحر وتأثير نفسي بالغ الوقع، فكل الشعوب مفتونة بسحره وهائمة في غرامه وتحاول الامتثال لقيمه وتقاليده وتقمص هويته العابرة للقوميات والثقافات، بعد أن وضعت أمام مسيرته التاريخية التخوم والحواجز التي تحميه من أي تفاعلات ثقافية مع أي شعوب أخرى أدنى منه منزلة أي إبعاد أي فكرة توحي بوجود تأثير خارجي على عبقرية الغرب وسحره، واخترع لهذا الغرب مسار تاريخي متواصل ومتماسك وصمم له خط زمني مبسط يعطي هويته العابرة للقوميات طابعها المميز ويضفي عليها المزيد من السحر.

لأسطورة الغرب وظيفة جوهرية وهوية يمكن توحيدها ضمن مسار تاريخي محدد يلغي أي تأثير أو تفاعل مع أي ثقافة أخرى، وتحديدًا ثقافة الشرق التي تلعب دور النقيض والمقابل، وكما هو معروف أن الأسطورة قادرة على إيجاد الرابط الاجتماعي وتعزيزه وتقويته، كما أن لتاريخها مخزونًا معرفيًا وأيديولوجيا ونسقًا عريضًا من الأفكار، ليس بالضرورة أن يكون تاريخها حقيقيًّا بل يمكن انتقاؤه وكتابته وتصويره من وحي الخيال، وبالتالي الترويج له ونشره.

من الصحيح القول إن تاريخ التراث الفلسفي الأوروبي وأفكاره التنويرية الخالدة ليست شيئًا متماسكًا كليًّا أو محددًا فكثير من عناصرها ارتبطت نشأتها مع تواريخ لشعوب خارج أوروبا، وإذا كانت أوروبا نفسها لها وجود جغرافي خارجي فهذا يقوض فكرة الغرب المتماسك ومساره التاريخي المتصل الذي يجعل منه النموذج والمثال الذي يصح التماهي معه وتقليده. ومن دواعي الأسف أن كثيرًا من المثقفين العرب وقعوا في حبائل أسطورة الغرب وفتنته الأخاذة وأصبحوا يؤمنون فعليًّا، وبكثير من الإفتتان، بالتقسيمات والتعميمات الملازمة لها ويؤمنون بما يندرج تحتها من إيمان بعبقريته الساحرة ومزاجه العقلي الخاص الذي هو سر تفوقه.

لم تكن أوروبا قارة صغيرة ومعزولة تصنع المعجزات وتخلق العلوم والمعارف من العدم، بل هي وريثة ومنخرطة في حركة تطورية للتاريخ البشري وبفضل عملية التثاقف واسع النطاق والتفاعل مع معارف وحضارات الشعوب الأخرى والتواصل المكثف مع من يسكن خارج أوروبا. وهذا التواصل والتفاعل شمل سلسلة من المشروعات المترابطة بل والمتصارعة مع ثقافات متمايزة ومجتمعات متنوعة ومتداخلة على نحو يجعلها تمتلك ظروفًا وأصولًا متفاوتة ومعقدة يدحض فكرة «الغرب» ذو الهوية المنفردة والوحدة الثقافية المتماسكة، فالغرب كيان أسطوري يلعب الخيال دورًا مهمًا في صناعته وليس كلا موحدًا ثابتًا يمكن تمييز نسق أفكاره وترابطه وحركته التطورية من خلال رؤى وأفكار فلاسفته العظام.

الأفكار العظيمة لم تكن أسيرة زمان أو مكان أو نتاج عبقرية شعب وعقلانيته الفطرية، فالأفكار بطبيعتها تعشق السفر والارتحال عن منبتها، وسجنها داخل نطاق جغرافي صغير سيؤدي لاضمحلالها وموتها، فالمعرفة في حالة ارتحال دائم بين الأجيال والثقافات والقارات وكل فكرة مهما بدت حديثة فإنها مشبعة بعبق الماضي وبوافر من أنساقه العتيقة.