كنتُ ولا أزالُ أدرس وأتأمل عبارة «الشر» وما تحتويه من مفاهيم و إشكاليات، حيرت البشرية من علماء وفقهاء ومفكرين وفلاسفة، وخصوصاً التفكير والتأمل فيمن خلق فعل الشر؟، وما هي المقاصد الدينية من إيجاد ذلك الشر، الذي يتضمن كل مآسي البشرية، منذ نشأة هذا الكون. وهذه الإشكالية التي تلتصق بمفهوم الشر والسببية والعلية في إيجاده كانت ولا تزال موجودةً، في كل الأديان والمجتمعات والثقافات والفلسفات، فهي موجودة في الأديان المنزلة من خالق هذا الكون، وموجودة في الأديان غير المنزلة «التي تسمى في -علم الأديان - أديان أرضية»، بل إن هذه الإشكالية موجودة في عمق كل الفلسفات اللادينية الإلحادية، التي تزعم أن هذا الكون ليس له إله وخالق، أحسن إحكام وإتقان هذا الكون، وهو المتحكم والمتصرف فيه، وأنه لا يخرج عن ملكه مثقال ذرة. وهي إشكالية تُحاكي كل النفوس البشرية ولايخرج من عمومها أي أحد، بيد أن المستوى المعرفي لتلك الإشكالية يتوازى مع كل مخزون معرفي في كل نفس بشرية على حدة. فمن تلك النفوس من يمر عليها مصطلح وعبارة الشر مروراً عابراً، قد يُلفت انتباهها أن هناك شيئاً يحدث، يحتاج إلى نظر وتأمل، بيد أن المخزون المعرفي لتلك النفوس يُحيل إلى العلماء، ومن له يد وباع عميق في تحليل المفاهيم العقدية والدينية، فيلجأ إلى الإيمان الكلي والمطلق، كي يتخلص من التأمل والتفكير في إشكالية الشر، وما تحتويه من تناقضات وتعارض بين الفعل الإنساني والفعل الإلهي. ومن تلك النفوس من يتوقف ويتأمل ويُحاول أن يفهم، ويوازن بين المفاهيم الإيمانية ومفاهيم الشر ومضامينه، فيتوقف مساره عند نقطة لمن يُنسب فعل الشر؟ وما هي السببية والعلية من إيجاده؟. وهذه النفوس تحمل إيماناً مطلقاً، بيد أنها لا تملك الأدوات المعرفية لأصل إشكالية الشر. ولهذا السبب تتأرجح بين التفكير في نسبة الشر إلى خالق الكون، وبين إخراج الشر من تصرفات الخالق تنزيهاً له من وقوع الظلم، وعدم العدل في خلقه وإيجاده، فتصبح في ضبابية من هذه الإشكالية، فتارةً يتغلب الجانب الإيماني لدى هذه النفوس، فتؤمن إيماناً مطلقاً أنه لا شيء يخرج من ملك الخالق، وتارة تقف عاجزة عن إيجاد سبب وعلة لإيجاد هذه الشرور التي تُحيق بالبشرية، فتكون لنفي خلق هذه الشرور عن مبدع الكون، أقرب منها لإلصاق تهمة الظلم وعدم العدل للخالق البارئ. وهي إشكالية تبقى في النفوس ولا تخرج إلا قليلاً، بسبب الخوف من الحوار، والنسبة إلى المذهب الاعتزالي. ذلك أن هناك خلافاً نشأ في أصل مفهوم الفعل الإنساني، بين المذهب الاعتزالي وبين باقي الفرق، ومن أهمها الفرق المنتسبة لأهل السنة، وذلك الخلاف يمكن تصويره بعبارات بسيطة، في أن الفعل الإنساني، هل هو من خلق وإبداع الإنسان؟، وذلك تأسيساً على أن الإنسان له إرادة ومشيئة مستقلة وحرة، ويستطيع أن يتصرف كيفما يشاء، أم أن الإنسان ليس له إرادة ومشيئة مطلقة، بل إرادة ومشيئة مقيدة بالمشيئة والإرادة الإلهية؟، ومن أصل هذا الخلاف نشأت فكرة ومسألة إشكالية فعل الشر. فهل هذا الفعل المتصف بالشر والقبح هو من خلق وإبداع وإنشاء الإنسان، أم أن كل الأفعال المخلوقة هي تابعة ومندرجة تحت المشيئة الإلهية؟، فقد ذهب علماء وفقهاء المعتزلة إلى أن الإنسان له إرادة ومشيئة مستقلة، وهذا من كمال العدل الإلهي، وأن أفعال الشر لا يمكن أن تصدر من الخالق، بل هي منسوبة لمن فعلها في الأصل، وهو هذا الإنسان الذي أودع فيه الخالق إرادة ومشيئة مستقلة، وأمده بعقل يميز فيه بين الأشياء، فلا يمكن أن تتم نسبة الشر إلى غير هذا الإنسان، وذلك لهذين السببين، «الإرادة المستقلة، والعقل المميز»، وهما سببان لم يودعهما الخالق إلا في مخلوق واحد من مخلوقاته، وهو الإنسان. وفي الجانب الآخر من مسألة نسبة أفعال الشر، ومن خلقها؟، فقد ذهبت الأشاعرة والماتريدية وأهل الحديث، إلى أن كل الأفعال مخلوقة لله عزوجل ولا يخرج عن ملكه شيء، فهو خالق كل شيء، خلق الموت والحياة، المرض والشفاء، الغنى والفقر، وهو الذي خلق وأرسى التفاوت في الطبقات الاجتماعية، وقسم البشر إلى وضيع وشريف، وتم تأسيس هذا القول على أن القول بأن الإنسان هو خالق لفعله، يستلزم عجز الخالق البارئ عن إدراك أفعال الشر، وإثبات وجود إلهين اثنين، وهذا شرك وكفر بخالق هذا الكون. وكل حجج من كتب في هذه المسألة من علماء أثريين ومتكلمين، أو سلفيين أو أشاعرة أو ماتريدية، فإنها تحوم وتدور حول هذا الاستدلال ولا تخرج منه، وهذا القول يلزم منه لازم قبيح، وهو أن الإنسان ليست له إرادة ومشيئة مستقلة، يختار فيها بين الأفعال المعروضة أمامه، وأن العقل الذي وهبه الله إياه، ليس فيه مزية، وأن أفعال الشر يمكن نسبتها إلى الخالق، وهذا فيه قبح وسوء أدب مع البارئ المتصرف في هذا الكون الحكيم الخبير. وفي نظري أنه لحل هذه الإشكالية وفض الخصام بين الفريقين، يمكن أن يكون هذان القولان قولا واحدا، ذلك أن المعتزلة يقرون بأن الإنسان مخلوق في أصله، بيد أن لديهم إشكاليةً في بعض أفعال هذا الإنسان، هل هي مخلوقة كما هو أصله، أم أنها خارجة عن أصل خلقة الإنسان؟. وباقي المذاهب يتفقون مع المعتزلة في أن أصل الإنسان مخلوق، بيد أنهم يختلفون مع المعتزلة في أفعال الشر، هل هي من مخلوقات خالق أصل الإنسان أم هي من عنديات وإبداعات الإنسان؟. فأهل السنة يقولون بأنها ليست من عنديات و إبداعات الإنسان بل هي تابعة لأصل خلقة هذا الإنسان، مع إقرار أهل السنة أن هذا الإنسان ليس مجبوراً على فعل الشر «وهذا قول ظللتُ أتمعنه لأكثر من ثلاثة عقود، ووصلت إلى أن فيه تناقضاً ظاهراً، وأصحابه لا يتعمقون فيه بل يُضفون عليه التسليم و الإيمان، دون مزيد بحث وهذه إشكالية حقيقية». و أصحاب هذا القول يوافقون على قول المعتزلة بطريق ضمني، حيث إن المعتزلة عندما أخرجت فعل الشر من دائرة أصل خلق الإنسان، وأن هذا الفعل من عنديات وإبداعات الإنسان بسبب أنه ليس مجبوراً، و أن له إرادةً وعقلاً يميز فيه بين الشر والخير، وأن إله الكون قد أودع في ذاته وروحه خاصية وميزة الاختيار بين الأفعال المعروضة أمامه، فما كان من خير فقد اختاره بإرادته المستقلة، وما كان من شر كذلك فقد اختاره بإرادته المستقلة، فهذا يتفق مع قول أهل السنة في قولهم، إن الإنسان ليس مجبوراً على فعل شيء، وهذه حقيقة ملموسة أمامنا نحن البشر، فمن يفعل فعلاً قبيحاً وهو عاقل ومميز وحر الإرادة، لا يمكن أن يُقال أن هذا الإنسان الذي أقدم على هذا الفعل القبيح، أنه كان مجبوراً ومكرهاً، بل كل البشر يتفقون أنه قد فعل هذا الفعل بإرادته، وهو الذي أنشأ هذا الفعل. وفي هذا القدر المشترك فإن جميع المذاهب تتفق عليه إلا ما شذ ممن يقول بفقد الإرادة الإنسانية. لذا فإن الاتفاق على القدر المشترك في مسألة أصل خلق الفعل الإنساني، هو المفتاح الحقيقي لفهم هذه المسألة المعقدة، وكذلك فإن القدر المشترك يخفف من وطأة التكفير والتطرف في المخالفة لهذه المسألة، لأن القصد الحقيقي في نزوع المعتزلة إلى نسبة كل أفعال الشر للإنسان، هو مقصد شرعي وحسن، وهو تنزيه الخالق من نسبة القبح والشر إليه. وقد ورد في صحيح مسلم «والشر ليس إليك». واختلف العلماء في شرح هذه العبارة على عدة مشارب، بيد أن العبارة تتضمن إثبات وجود الشر شرعاً، وأن هذا الشر لا يمكن نسبته للخالق البارئ، وفي هذا قدر مشترك في أصل الخلاف في مسألة نسبة أفعال الشر، أهي من إبداع الإنسان بسبب ما وهبه الخالق من ميزة الاختيار والإرادة والعقل، أم أنه ليس له أي دور فيها بل هي تُنسب لمن خلق الأنسان؟!.