شغلت بالتفكير مرارا وتكرارا للبحث عن إجابة لسؤال بدا ملحاً، وهو لماذا يكتب الكتاب، وكنت أحاول بين فينة وأخرى، أن أتطرق إليه، ولكن أعود القهقرى، «لذيذة» هذه القهقرى التي أصبحت من الحضارات التي سادت ثم بادت، كقصص عنترة وأبو زيد وكليب والبسوس، الذين ضرب السلام بين قبائلهم السوس.

أعرف أن البعض امتهن الكتابة لتأمين جزء من لقمة العيش ولو بدون ملح، ولا ألومهم في ذلك، فمطالب الحياة كانت منذ وقت طويل تحتاج إلى مصاريف، يعاني منها أعتى إنسان يعتمد علي الروتيب الذي يدخل جيبه في أول الشهر، ويخرج اللهم لا حسد في نفس اليوم.

وعلى ذكر الراتب فمن معانيه في اللغة العربية، هو الثابت الذي لا يتغير، ويبدو أن هذا الوصف هو الذي يليق به مع سبق الإصرار، هذا عن الموظف فكيف بالذي خالٍ من الشغل وعلى بابك يا كريم، فمصاريف الحياة في الوقت الراهن أصبحت تهد حيل الموظف، والذي لم يتوظف بعد، وكلاهما أصلا ليس لديهم حيل بالحيل.

والكاتب الذي يعتمد على الكتابة كمصدر رزق يضطر أن يكتب، ويجتهد أن يكتب يوميا لزيادة الغلة، وإن كانت على قد الحال، ويا دوب تبل الريق وتنير الطريق، وهو مع الأسف مجرد ترس في ماكينة، إذا مرض أو غاب بسبب أو بدون أسباب، وإذا كلامه لم يعجب ذو الألباب، فبدون سؤال أو جواب يرميه الترس وتغلق من دونه الأبواب، ويستبدل بغيره من الكتاب.

وفريق آخر من الكتاب يكتب ليشبع غريزة طبيعية وهي الأنا، تحقيقا لنظرية العالم النمساوي الشهير سيجموند فرويد، فهذا الكاتب يشغله حب الذات، فيريد أن يكفيها ويشبعها، فيتفنن كيف يبز أقرانه، همه أن يشار إليه بالبنان، هذا الكاتب فلان بن فلان، عاد هو وحظه فربما يقال علان بن علان.

وفريق يحب أن يستمتع بالكتابة فهي بالنسبة له إبداع وهواية، لا يدري إلا وقلمه ينساب وهذه ليست الشركة المعروفة «ينساب»، بل ينساب على بساط الحرف ليثري ذائقته ويمتعها، فهو يرضي ذائقته ويمتع ذائقة القرّاء.

وآخرون يكتبون لأنهم يَرَوْن أن ذلك واجبا عليهم، ليضخوا أفكارهم وما تعلّموه ليفيدوا البشرية، وهؤلاء في الحقيقة قلة.

وفئة تكتب لأنها تستكتب من قبل الناشرين ورؤساء التحرير لأنهم يعلمون أن تلك الأسماء تضيف رصيدا للصحيفة، لكعبهم العالي في هذا الميدان.

وبعض الكتاب قد لا يكون بعضهم بذلك الكاتب، لكنه يملك قاعدة جماهيرية، نظرا لسمعته أو إبداعه في فن آخر، قد يكون التمثيل أو الرياضة أو البرامج الإعلامية فيستكتب كعامل ترويج للصحيفة الأخرى.

العالم يعج بالكتاب والذين يتوارثون هذه المهنة، جيل بعد جيل تختلف الوجوه والأسماء، وتتبدل الأقلام بل لم تعد تستعمل تلك الأقلام والمحابر، فالتقنية قلبت ظهر المجن للأدوات الأصيلة الكلاسيكية، ولكن هل فيما كتب الكتاب منذ تلك الحقب إلى الحاضر شيء مختلف، أو أن الكتاب يكررون أنفسهم كما هي دورات الحياة التي لا يحركها حتى جبل يقع في الماء الراكد، وليس فقط حجر كما هو المثل، وسيرا على هذا الحال، فهذه نشرات الأخبار التي منذ وعينا على الدنيا ونحن نسمع لقي أناس مصرعهم وقضى زلزال على جمع من البشر، واجتاحت الأمراض البلد الفلاني، وتغير المناخ والويل من مزاجه الصاخب العكر.

في الحقيقة، هي كما هي، لكن هناك بعض التغيير الشكلي، فالقتلة تغيرت أسماؤهم القديمة، وأصبحت القاعدة وداعش وبوكو حرام، والأمراض أصبحت إنفلونزا الطيور والخنازير والبقر، والإخوان المسلمون أضيف لهم بحسب مهمتهم القذرة حزب الله والحشد والحوثيين وليست طالبان ببعيد.

والسؤال العريض وبالبنط الكبير، هل من جديد يضيفه كتاب هذه الأجيال، أو أن من سبق كان أشطر ولكن هي «كدا».

أعتقد أن معشر كتاب الحاضر وقرائه، وربما من يليهم بعشرات السنين سيسألون نفس السؤال، هذا إذا بقي قلم أو حبر أو ورق.